حكايتي مع الكوانتم، كيف نتعلم شئ جديد ونتأكد من صحته ونحن لا نفقه فيه شيئا؟
محاضرة الكوانتوم
الدراسة العلمية حاجة مهمة جدا تثري العقل وتوسع مداركه. إحنا كلنا بتخصصاتنا المختلفة .. اللي مهندس واللي دكتور واللي محامي واللي محاسب… كلنا بنشكل نقط في بحر التنوع الفكري الإنساني. بس احنا عايزين نفرق بين الثقافة والعلم، طبعا أولا كلمة الثقافة ممكن تتعرف من أكثر من جهة ومش وقته إننا نرصد كل التعريفات. أنا هركز هنا على تعريف معين وهو المعرفة العامة للموضوع بهدف العلم بالشيء لا التخصص فيه. حضرت كورس واحد ل الكوانتوم في حياتي…كان تجربة عميقة خاصة إن الكوانتوم أو فيزياء الكم بعيدة عن تخصصي نوعا ما. اتعلمت إن لكل علم باب لازم ندخل منه وإن الحكم المتسرع على الموضوع قبل إدراك تفاصيله أولا غالبا إلا في أحيان قليله بيوصلنا لنتيجة غلط. ثانيا بيحرمك من جمال التنزه في ربوع العلم وربواته. إنك تسافر بين المقالات والمعادلات والتكامل والتفاضل وما إلى ذلك من المغامرات الرياضية والعقلية.
قبل ما أدرس الكورس ده كنت قرأت قراءات عامة (ثقافة عامة) عن فيزياء الكم. وكنت ساعات ادخل في نقاشات مع زمايلي في بعض هذا الأطروحات والنظريات. كانت من باب النقاش ومشاركة المعلومات لا من باب الاستدلال والعلم. كنا كلنا عارفين إن احنا مش متخصصين… بس ده كان قبل عصر الفيسبوك..كنا بدل ما نقرا بوستات كنا بنعمل حاجة غريبة…كنا بنتجمع مع بعض في العالم الحقيقي…اااه والله، ونتكلم مباشرة ببقنا …شوف ازاي!… ونتناقش ونتحاور وما إلى ذلك من نشاطات كنا بنسميها تواصل اجتماعي. دلوقتي على رأي البوست اللي بيقول حنتقابل فين علشان كل واحد يحط وشه في الموبايل… سخرية من طغيان التواصل الافتراضي على التواصل الحقيقي الاجتماعي…
المهم نرجع لفيزياء الكم… عمرنا ما اخدنا الكلام اللي بنقوله يقين… دايما نقول محتاجين نقرا أكتر أو الله أعلم أو نسيب النقاش مفتوح. وكانت ساعات نقاشاتنا تخلي حد فينا يقرا أكثر في الموضوع ويجيب معلومات تفيدنا أكثر.
ليه ماكناش بنصدق كل حاجة بتتقال؟
لأننا عارفين إن من غير ماتقدر تثبت كلامك يبقى كلامك لا يمكن نصدقه. احنا هندسة يعني نظرية فيثاغورس وقوانين نيوتن والقانون العام للغازات. على رأي أرسطو اللي كان بيتكلم على أستاذه افلاطون…لما قال أنا بحب أفلاطون لكن بحب الحق أكثر من أفلاطون…معنى كدا إني مش حصدقك لمجرد إني بحبك أو شكلك كيوت أو بتلبس كونفرس. مش حصدقك لمجرد إن معاك شهادة من هارفارد ولا كامبريدج. لازم يكون فيه دليل على كلامك قبل ماصدقك… اتفقنا يا جماعة؟
موقف وعبرة
بعد ما خلصت الكورس بوقت حوالي شهرين كدا كنت بدي محاضرة في المنطق… المهم واحد من الحضور كان بيسألني بحكم خلفيتي في الكيمياء وكدا عن فيزياء الكم. في الوقت ده كانت حصلت تجربة موجات الجاذبية المشهورة في أمريكا اللي قدرت تستشعر بظاهرة اندماج ثقبين أسودين على مسافة كبيرة جدا مليارات السنوات الضوئية.
اهتمام الناس في الفترة دي بالكوانتوم زاد جدا علشان التوجه العام على مواقع التواصل الاجتماعي كان بيصب في الاتجاه ده… طبعا ناهيك عن أينشتاين والنسبية العامة والخاصة اللي بتبهر الناس علشان الطفرات التكنولوجية ويمكن كمان الاجتماعية والاقتصادية والاستراتيجية اللي نتجت عنها.
المهم طلب مني هذا الشخص إني أبقى أكلمهم في الكوانتوم… فطبعا رديت عليه رد بيرتكز على ثلاثة نقط أساسية:
في البداية وضحت رفضي للموضوع ده… وسألني عن السبب:
- أولا أنني غير متخصص لاتكلم فيما لا أفقه في تفاصيله ناهيك عن إن حتى كلياته وقواعده الأساسية معرفهاش كلها والنقطة دي حسميها ضعف أو عدم تخصصية المحاضر في هذه النقطة
- النقطة التانية وهي أن الأرضية مش واحدة… الكوانتوم كغيره من العلوم التطبيقية والهندسية يعتمد على قواعد منطقية ذات طابع خاص وهو علم الرياضيات… كل الاستنتاجات في الفيزياء ومتفرعاتها تعتمد وتستخدم الرياضة بتركيز ودقة عالية تحتاج لمتخصص ليشرحها ولدارس متفرغ ليتلقاها… فهي ليست بالأمر السهل الذي يمكن تحصيله في قعدة أو اتنين… ولعل الزملاء المتخصصين في علم الرياضيات والفيزياء ممكن يوضحوا حجم الموضوع ومدى شراسة الرياضيات اللي بتستخدم في الكوانتوم بالذات واللي بتعمل لبس حتى عند أهل التخصص نفسهم. وده حنسميه ضعف المتلقي أو القابل. يعني علشان نتكلم كوانتوم لازم الأول نعرف نتكلم رياضة. أشبه بواحد عايز يغني الأطلال وهو أصلا مابيعرفش يتكلم عربي. حتى لو استطاع حيكون من باب التقليد والتشبه لا من باب العلم والإحاطة بمعاني الكلمات والعبارات في الأغنية.
وأوضحتله النقطة بطريقة بسيطة… قلتله لو انت دلوقتي كتبتلك إثبات تفصيلي لجزء معين في النظرية حتصدقني؟ قاللي ااه… قلتله لييه؟ علشان بتثق فيا لأنك تعرفني مش علشان اللي أنا بقوله صح!!! لأنك علشان تحكم على كلامي لازم يكون عندك علم بأدوات الرياضة اللي بستخدمها. وعلشان كدا لو قلتلك حاجة غلط بقصد أو لخبطة مني مش حاتقدر تصحح الغلط أو تكتشفه قبل إتقان أدوات الاستدلال دي.
- النقطة الأخيرة ودي الأهم وهي الغاية… يمكن أنا دايما أركز في كلامي على الغاية لأن هي اللي بتحط الإطار العام لأفعالنا. للأسف إن أغبية النقاشات في العلوم التطبيقية مع الجمهور غير المتخصص (الجمهور اللي مالوش علاقة مباشرة مع البحث العلمي والأكاديمية) بيكون هدف تلك المناقشات ليس شرح مسائل العلم لهم ولكن غرض تشكيكي خبيث. طبعا هناك الكثير من الاكتشافات التي غيرت واقعنا. لكن أن نستدل من هذه الاكتشافات والأبحاث على نتائج فلسفية تمس الرؤية الكونية والمعتقدات العامة فهذا بحث غير البحث وغرض غير الغرض.
أنا هنا مش بقول إن ماينفعش أطلع باستنتاجات فلسفية من الكوانتوم وأبحاثه. أنا بس عايز أوضح أييه اللي مطلوب من الحضور في ندوة الكوانتوم. المطلوب منك كواحد من الجمهور غير المتخصص الآتي… إنك تيجي تحضر محاضرة في موضوع تخصصي شديد الدقة. وتستمع لسيل من الألفاظ التخصصية ربما بلغة غير التي تألفها وبطريقة تلقينية من طرف واحد لا يسمح لك فيها بواقع الحال أن تتناقش. حتتناقش في أييه؟ الموضوع أصلا تخصصي دقيق ومعتمد على الرياضة اللي انت أصلا مش متخصص فيها. يعني حتى مش متخصص في الباب الضروري لفهم التخصص.
ويا سلام بقه لو فيه في الحضور شوية متخصصين منتشرين وسط الحضور ويكونوا فاهمين أو متخيلين إنهم فاهمين. علشان يهزوا راسهم بالموافقة وتلمع أعينهم بالفهم والإدراك. طبعا ده عامل نفسي مهم، الإنسان بيحاول ينتمي لمن حوله، لما الناس بتسقف بتبقى عايز تسقف ولما بتوافق بتبقى عايز توافق علشان تنتمي للمجموعة. إحساسك كغير متخصص وسط متخصصين يهزون رؤسهم بالموافقة هو اللي بينهي الموقف بموافقتك وفق نفسية القطيع. لما كل الناس دي وافقت أكيد هما صح.
نيجي بقى للجزء الفلسفي اللي بيبقى في النتيجة. يقولك نتيجة لكل اللي قلناه… ويوقف كلام في الفيزياء والكوانتوم ويكلمك فلسفة بقى… حبة دين على اجتماع على سياسة وكلام كتير حلو ومنمق. وطبعا كله اعتمادًا على المحاضرة اللي في الأول اللي حضرتك وافقت عليها فلازم توافق على الكلام ده. ولا انت شكلك مافهمتش كويس؟
ده اسمه حشر معلومات واستخدام طريقة الصدمة واستغلال نزعة الإنسان الاجتماعية في القبول ببعض الأفكار دون أن يمتلك القدرة على الحكم عليها علميا أو منطقيا. إنه أحد أهم مظاهر الغزو الفكري أن يستخدم الزخم المعلوماتي الضخم في إرباك المتلقي في جو تعمه الفوضى المعرفية ووضعه في حالة ضعف نفسي تجعله يقبل المعلومات دون تنقيح أو حتى استفهام أو تساؤل بسيط.
أمال الصح أييه؟
مناقشة زي دي ليها ثلاثة أركان… لو عايزين نوصل من الكوانتوم للفلسفة لازم نعرف الثلاثة أركان دول. نبتدي من آلة الإثبات… المنطق والرياضة. ثم السرد التجريبي… كعلم تجريبي يعتمد الكوانتوم على التجربة بشكل أساسي لازم يكون فيه إلمام بشكل جيد بتلك التجارب ليكون هناك قدرة على تحديد الاستنتاجات الحقيقية من الكاذبة. ثم الشق الفلسفي.. الفلسفة دايما مظلومة… كل واحد قرا كتابين أو شير بوستين على الفيس افتكر نفسه فقيه وفيلسوف ومنقذ للبشرية ولازم يهدي الناس. أغلب الكلام مغالطات وأفكار متداخلة ومتشابكة ولكن تسرد في قالب درامي أو كوميدي يجعل من الضحكة أو الحبكة مبرر لتقبلها. يعني العلم بقى بالحب والمشاعر مش بالمنطق والدليل. لازم نعرف يعني أييه فلسفة وأيه مباحثها وأهدافها قبل ما نحملها ما لا ينبغي أن تتحمله ونظلمها.
نصيحة وخلاصة
عايز تقرا في الكوانتوم اقرا… عايز تحضر ندوة احضر… لكن ماتسمحش لحد يلعب في دماغك. ماتسمحش لحد يستخدم عواطفك أو اندفاعك ورغبتك في الانتماء. أو غرورك واقتناعك إنك ممكن تفهم أي حاجة من غير تعليم أو تخصص. تأكد هنا إنك انت اللي خسران. الأفكار حتفضل أفكار في الكتب لا تحتمل إلا ما تحتمله. وكل ما يحمل عليها بالمغالطة أو النصب الثقافي ده مجرد عبث فكري، الأفكار دي بريئة منه. فلازم وأنا رايح أحضر محاضرة أو ندوة أحط هدف قصاد عيني.. هل أنا رايح آخد فكرة عن الموضوع وثقافة عامة؟ زي ماكنت بتكلم مع صحابي عالقهوة زمان؟ ولا رايح آخد محاضرة علمية ويقين حقتنع بيه وأدافع عنه وأغير على أساسه حياتي؟
وأحب أختم بحكمة جميلة “لكل علم باب، فأتوا البيوت من أبوابها
لقراءة المزيد من المقالات يرجى زيارة هذا الرابط
ندعوكم لزيارة قناة الأكاديمية على اليوتيوب
“