معيار الحق
معيار الحق
قال الشيخ محمد الغزالى يوماً: “من المألوف فى تاريخ النهضات أن اليقظة العقلية تسبق دائماً النشاط السياسى والإجتماعى” ، وهو ما افتقدته ثورة يناير إن لم يكن الربيع العربى كله -أو الخريف كيفما اتفق- ، حيث وضح تماماً غياب النخب الفكرية فى الإتجاهات المختلفة ، ويكأن الجميع قد صُدم بحاجته لفكر واضح المعالم يصوغ به حياته ، ويسير به فى دروب رحلته الخاصة للوصول للحق ونصرته ، لذا لم يكن مستغرباً ما نراه اليوم من تخبط بعد الفشل المتوالى للنشاط السياسى وبخاصة مع ضبابية العقيدة ، أن يمتد ذلك التخبط للنشاط الإجتماعى والأخلاقى ، مع افتقار الجميع للمعيار الحاكم ذو الحجية القادر على التعامل مع الواقع.
فمع الفقر الفكرى الشديد وغياب القيادة الفكرية والروحية ، وخاصة مع عشوائية المنهجية المتبعة لسبر أغوار الحقيقة ، لم يعد هناك مجال على الساحة الفكرية سوى للعبارات الرنانة ذات المعانى الجوفاء ، وهو ما انعكس بشدة على اختزال القيم الإنسانية كلها فى لفظة الحرية المطاطة ، التى تصبح مطية لامتهان كل ما دون ذلك من معانى تصبو إليها النفس الإنسانية المتسامية ، فى نظرة قاصرة بشدة للإنسان بما هو إنسان.
وبدلاً من الاستطراد فى الحديث بلا أى سند ، لابد لنا أن نتوقف قليلاً لنتمعن فى تلك القيمة كمثل و معيار لأحقية السلوك البشرى ، فبصفتها المعيار الحاكم لابد أن نفترض فيها الإطلاق أو الحرية المطلقة ، كحريتى مثلاً فى الإيذاء وهو ما سيكون الرد عليه جاهزاً من اصحاب الحرية فى كونى “حر ما لم أضر” ، وهنا لابد أن تثار العديد من الاسئلة ، فهل الضرر المقصود هو اضرارى بغيرى فقط ، أم يشمل اضرارى بنفسى ، وما هو الضرر ، ومن يحدد ما هو مضر مما هو نافع؟!! ، وإن كان هذا أو ذاك فلما لا تجرم السجائر مثلاً على ما بها من اضرار للصحة ، ليتضح لنا مما سبق كون الميزان الحاكم مفتقر إلى ميزان ، وهو العدل الذى به تستقيم الحرية وبه تسمو البشرية وتتعالى القيمة الإنسانية.
لننطلق من اظهار فساد معيار الحرية إلى الجانب الأهم المتعلق بالأخلاق ، تلك الكلمة التى -من باب الحرية- أصبحت فى زماننا نسبية ، بحثاً عن حرية زائفة مما أسماه البعض القيد الإجتماعى ، لننظر فى تلك الكلمة نظرة عقلية بما ميزنا به الله على خلقه ، فالخُلق هو عبارة عن حالة نفسية تدفع الإنسان نحو العمل من دون تروى وتفكر وقد تكلم الفلاسفة والحكماء منذ قديم الأزل عن النفس الإنسانية وأقسامها ، بين النفس العاقلة والنفس الشهوية والنفس الغضبية كمحور أولى لتفسير الأخلاق.
فتتربع النفس العاقلة على عرش حاكمية سلوك الإنسان ، حيث بافتقادها يصبح حيواناً منقاداً لشهواته وأهوائه ، بما فيها من فضيلة الحكمة التى بدورها تتحكم بالنفس الغضبية والشهوية ، لتصل بهم إلى بر الخُلق الإنسانى الذى به يتميز عن الحيوان ، من شجاعة وعفة حيث فضيلة العدالة التى ترعى فضائل وسلوكيات الناس كلها ، بعيداً عن المصطلحات التى تطنطن بلا مغزى ولا معنى ، حيث يقوم الوجود كله على العدل فلا يخرج من حيزه شىء فى الأرض أو فى السماء.
لتكون مما سبق الأخلاق هى النتاج الطبيعى للميزان الحاكم السليم ، بعيداً عن المصلحة أو الحرية (المطلقة) ، فى وضع الشىء فى موضعه ليكتمل الإنسان بالخُلق الحسن ، معتلياً مكانته الحقيقية وموضعه ، ككائن باحث عن السمو مسلماً مناط نفسه لعقله ، ليضىء مسلكه نحو سعادته الحقيقية ، بعيداً عن أى مغالطات تسوقها إليه شهواته ورغباته.
لقراءة المزيد من المقالات يرجى زيارة هذا الرابط.
ندعوكم لزيارة قناة أكاديمية بالعقل نبدأ على اليوتيوب.