مقالاتقضايا وجودية - مقالات

سلسلة شرح معضلة الشر (الجزء الأول ): ما هو الشر؟ ولماذا خلقه الله وسمح به؟

– لماذا لا تعطيني ما أريده؟ أيجب أن أعبدك لكي تعطيني؟

– أيها العبد التائه، كيف ترغب في شيء وتنفر منه في نفس الوقت؟ أتريد الأمان؟ أنا الأمان، اقترب وستكون آمنًا، أتريد الحب؟ أنا الحب، اقترب وستكون محبوبًا، أنا الموجود في كل ما له وجود، أنا الذي  أفيض بالكمال على كل ما له كمال، أنا الكمال المطلق، أنا المنبع، أنا كل ما تريده، أنا النشوة، أنا العناق، أنا العشق، أنا معبود الفلاسفة …

هل هناك خالق؟

صوت داخلي أو حلم يقظ أو قدم مُعلّقة في الفراغ تبحث عن أرض صلبة أو وجدان تأثر بالكتابات الصوفية العرفانية ووجد فيها ضالته، هو أمر مجهول الماهية ولكنه معلوم الدلالة، أمر يدل على نقص يحتاج لكماله، يدل على جرح يبحث عن طبيبه، ثمة فراغ يبحث عن من يملؤه…

كُنت منكرًا لوجود إله، ولكن مرور الزمن وتدافعه فرض على عقلي تصورًا جديدًا وأقنعني بأن القسوة والظلم والشر القابعين في أرجاء الكروية الأرضية مُحال أن يكونوا بلا خالق، الله موجود، ولكنه شرير سادي عبثي قاسي، هذا التصور راق لي أكثر من تصور الكون الصدفة، فاعتنقته لفترة أطول لأنه حرك غضبي في تحدي الإله ودينه عندما كنت أفعل المحرمات وأصب اللعنات ولا أبالي، وأطلِق العنان لشهواتي لفعل كل ما طاب ولذ بلا أي رادع أخلاقي

ولكنه كان تصورًا مُرهقًا، مؤلمًا، كنت أخاف من كل شيء ومن اللاشيء، أقاوم العدم، أكره الجميع، أؤذي السخيف، وكانت معايير السخافة عندي سلسة لدرجة جعلتني أطبقها على كل من يُعكر مزاجي، لا أحب، لا أنفعل، لا أبكي، لا أعانق، جفاف وفراغ، وشهوات ينتهي مفعولها بشكل سريع، وشيء لا أعلم كُنهه كان يأكل في نفسي، وعفن لا أعلم كيفيته كان يخرج منّي مع كل زفير…

اضغط على الاعلان لو أعجبك

سيدي الخالق

سيدي الخالق لا يقدر أحد على تحديك، أنت بهذه القوة المطلقة فلم لا تكون رحيمًا؟ أعطني أمانًا وحبًّا وسكينة ونشوة وعناقًا وسعادة لا تنتهي وبراحًا لا يشوبه الضيق، أيجب أن أكون من العابدين لك كي تعطيني؟ ألا تعرف معنى الإيثار؟ ألا ترى أمي تحنو على قلبي رغم قسوتي عليها؟ ألست أنت الذي خلقتها؟ إذن فلم لا تعطيني رغم كفري؟

كطفل تصفعه أمه فلا يجد ملاذًا آمنًا سوى حضنها، يلقي نفسه بداخله ويبكي، يعاتبها ويحتمي بها، عندما ضاق علي كل شيء وأحكَم العدم قبضته على روحي اتجهت ناحية القراءات الصوفية العرفانية التي بدورها أضفت سكينة على قلبي، ثم انطلقت ناحية مباحث الإلهيات.

في مبحث العدالة توقفت أمام معضلة هامة جدًّا، وهي لماذا خلق الله الشر ؟

ما هو الشر؟

في المنطق قبل أن تحكم على قضية يجب أولًا أن يكون عندك تصور كامل لمفهوم هذه القضية، دعونا نسأل أولًا، ما هو الشر ؟… الشر هو فقدان شيء، خسارة، نقص، فراغات، الشر هو عدم وجود، الشر هو غياب الخير، والخير هو الوجود، الخير هو تحقيق المنافع والمصالح، والشر هو انعدامهم، إذن إن أرادنا وضع تعريف للشر نقول وفقًا لما قاله الفلاسفة أن الشر هو عدم الخير.
وبما أن الشر عدم، إذن هو ليس له وجود واقعي حقيقي، إننا نلمسه وندركه عندما يغيب الخير، فالوجود والتحقق يكون للخير، ومدى غياب الخير نعبر عنه بمصطلح “شر”.

مثلًا الجهل شر لأنه عدم العلم، والجاهل هو فاقد العلم، الجاهل لا يتمتع بصفة لها وجود اسمها فقدان العلم، فعندما يتحول هذا الجاهل إلى عالم فهو لا يفقد شيئًا وإنما يكتسب العلم، لو كان الجهل له وجود واقعي حقيقي لرافق تحصيل العلم فقدان شيء، كشاب يترك حبيبته ويفقدها من أجل إرضاء أهله غير القابلين بزواجه منها، ولكن الجهل أمر ليس له وجود فعندما يتحول لعلم لانفقد شيئًا وإنما نكتسب العلم.

الشر ليس مخلوقاً خلقه الله

الفلاسفة شبهوا الشر بالبرودة والظلام، فالبرودة تعني انعدام الحرارة ولا وجود واقعي حقيقي لها وغير خاضعة للقياس وإنما الخاضعة للقياس هي الحرارة، والبرودة لا مصدر لها وإنما التي تحتاج لمصدر هي الحرارة، فيكفينا سد مصادر الحرارة لكي تعم البرودة، كما يكفينا إغلاق المصابيح لكي يسود الظلام، فالضوء أيضًا هو القابل للقياس وهو الذي يحتاج لمصدر يوجده وليس الظلام.

مثلًا الغني يملك المال بينما لا يليق أن نقول أن الفقير يمتلك الفقر وإنما الفقير هو فاقد المال، ولا تعريف للفقير إلا بفقدان المال.
والأعمى هو فاقد البصر وليس مالك العمى، ولا تعريف للعمى إلا فقدان البصر، وقِسْ على ذلك.

فكل شر هو فقدان، وكل فقدان لا وجود واقعي حقيقي له ولا يحتاج لمن يوجده وإنما هو غياب الخير.
ومن ثم فالشر ليس مخلوقًا لأنه ليس له وجود فلسفي لكي يحتاج لمن يخلقه.
وبالتالي سؤال لماذا خلق الله الشر هو سؤال غير دقيق؛ فالسؤال المظبوط يكون لماذا سمح الله بغياب الخير؟
وإجابة هذا السؤال طويلة، سنعرض جانبًا منها في هذا المقال، والجانب الآخر سنخصص له المقال القادم بالكامل.

أنواع الصفات

إن الصفات عمومًا تنقسم إلى نوعين، النوع الأول يتمثل في الصفة الحقيقية، وهي الصفة التي يتصف بها الشيء بغض النظر عن مقارنته بأي شيء آخر، مثل أحمد مصري، أو يد إيمان بها خمسة أصابع، أو سعة الزجاجة لتر واحد، أو الأسد آكل لحوم.

والنوع الثاني هو الصفة النسبية الاعتبارية، وهي الصفة المتعلقة بمقارنة الأشياء ببعضها وتخضع لطبيعة الموضوع المحمولة عليه، مثل الكِبر والصغر، عندما نقول أحمد صغير ثم نسكت فهذه الجملة بها خلل، فيجب أن يكون هناك أمر يُقاس عليه صِغر أحمد، أحمد صغير على حل المسائل الرياضية المعقدة ولكنه كبير على تهجي الأحرف مثلًا، فكل شيء يمكن أن يكون صغيرًا وكبيرًا في نفس الوقت من جهتين مختلفتين، فالحصان حديث الولادة صغير الحجم مقارنة بباقي الأحصنة ولكن حجمه أكبر من كل الخراف.
فالصفة النسبية الاعتبارية مرتبطة بشروط بينما الصفة الحقيقة لا تتقيد بشيء فهي ثابتة دائمًا.

إن خلق وإيجاد الأشياء متعلق بالصفات الحقيقية، أي متعلق بوجود الشيء بالنسبة لنفسه فقط وليس بالنسبة لشيء آخر، أما بالنسبة للصفات الاعتبارية النسبية -أي وجود الشيء بالنسبة لغيره- فلا تتعلق بها عملية الخلق والإيجاد.

خير للنفس، شر للآخر

وكل صفة حقيقية يتمتع بها المخلوق هي لنفسه خير، وإن كان شرًّا فالشر لغيره وليس له، هل العقرب لنفسه شر؟ البكتريا عندما تقتحم جسد الإنسان وتسبب له المرض فهي تجلب لنفسها الخير بالغذاء على هذا الجسد، الإنسان لنفسه خير، سم الثعبان لنفسه خير، الماعز لنفسها خير، ولكنها للحشائش شر وهي للإنسان خير، الملك الفاسد عندما ينهب أموال شعبه ويسبب له الفقر فهو يحقق لنفسه خيرًا، يحقق لنفسه ولأسرته وحاشيته زيادة في المال والثروة، البراكين هي خير للأرض نفسها لكي تخف من ضغطها وتصبح أكثر استقرارًا وإن تسبب ذلك في شرًّا للناس، وربما بعد سنوات تصبح هذه الحمم البركانية خيرًا للأجيال القادمة بعد تحولها لمادة مفيدة.

قد يُخطئ المخلوق في تقييم الخير والشر ويتحرك بنية جلب الخير ولكنه في الواقع يتحرك لجلب شيء باطنه الشر، ولكن هذا لا ينافي أن كل المخلوقات تتحرك لجلب الخير لنفسها وإن تسبَّب ذلك في شرّ على المستوى البعيد، القاتل عندما يقتل فهو يتجه لتحقيق خير بالنسبة له متمثلًا في التشفي والتخلص من شخص مزعج، ولكنه بعد ذلك ربما يقع في شر المُسائلة القانونية، ثم يأتي محامٍ ليجلب الخير لنفسه من الدفاع عنه.

الشر نسبي واعتباري

الشر نسبي، اعتباري، وما هو شر لك قد يكون خيرًا لغيرك.
وما هو نسبي واعتباري لا يمكن البحث فيه على أنه أمر مستقل، فهو لا يملك وجودًا حقيقيًا واقعيًا، ولكنه من لوازم الوجود الحقيقي وتابع له ولا يمكن أن ينفصل عنه.
فإننا لا يمكن أن نبحث في الظل مثلًا كأمر مستقل عن الشمس، فلو لم تكن هناك شمس لما كان هناك ظل، فالظل ناشئ من اعتراض شيء للنور، وافتراض انعدام الظل من الوجود يستلزم تغير نظام الشمس والأرض والمخلوقات وقوانين الطبيعة، فهل النظام الكوني قابل للتغير؟ وهل تغيره سيسبب نفعًا أم ضررًا للكائنات؟

ما قمنا بتوضيحه في هذا المقال هو أن الشر عدمي الوجود ونسبي التحقق وبالتالي لم يخلقه الله لأنه ليس بمخلوق أصلًا،وتحققه ما هو إلا رد فعل اعتباري خاضع لقوانين الوجود.

وبالتالي يكون السؤال الأكثر دقة فيما يتعلق بمعضلة الشر هو لماذا خلق الله ذلك الوجود الواقعي الحقيقي الذي من لوازمه تلك الأحداث الاعتبارية؟
وهل للشر منافع قابعة بداخله ولولاه لما وصلنا لهذه المنافع؟

سنحاول الإجابة على هذه الأسئلة في المقالات القادمة… تابعونا

اقرأ أيضا :

أزمة العدالة والخير و الشر.. ألن نتمتع بعالم خالٍ من الشرور ؟

الميراث للمرأة بين حكم العقل وحكم الفيسبوك – هل نتبع الحكم الشرعي أم لا ؟

ليه الشر ؟ الدنيا جنة ولا نار؟