قضايا وجودية - مقالاتمقالات

معجزة القرآن – الجزء الأول

القرآن الكريم هو أحد الرسالات الإلهية الشريفة، بل هو أشرفها وأكملها، لكونه مرسلا إلى البشرية جمعاء وحتى آخر الزمان، وقد اتفق كثيرون على كون القرآن الكريم معجزًا، لكنهم اختلفوا في وجه الإعجاز فيه، فقال بعضهم إنه إعجاز بلاغي بشكل أساسي، وقال آخرون إنه إعجاز علمي، وقال آخرون خلاف ذلك.

وسنحاول هنا أن نلقي النظر على بعض أوجه الإعجاز القرآني.

1- الحقائق العامة:

في رحلته للبحث عن الحقيقة وسبر أغوار الكون، يتمكن العقل الإنساني من الوصول لبعض الحقائق العامة في العقائد، مثل وجود الإله واتصافه بالكمال المطلق والوحدانية، ومثل وجود النبوات والحياة الأخروية.

كما يستطيع الوصول لبعض القواعد العامة في التشريعات أيضا، كبعض قواعد المعاملات والعبادات، فمثلا في المعاملات يدرك العقل حسن العدل وقبح الظلم، وفي العبادات يدرك العقل استحقاق الإله للعبادة والشكر والطاعة.

ويحتوي النص القرآني على الحقائق العقلية العامة الاعتقادية والتشريعية سابقة الذكر، وهذا مهم كي يعرف العقل أن هذا الكتاب حق، فلو خالف القرآن هذه الحقائق التي يصل إليها العقل وحده لرفضه العقل.

اضغط على الاعلان لو أعجبك

وهذا الجزء من الحقائق مع كونه يمكن الوصول إليه بالعقل إلا أنه غير موجود في أغلب الديانات الأخرى على سطح الأرض، إذ أغلبها مخالف للعقل، وبالتالي يسهل على العقل الوصول للرسالة القرآنية الحقة والاعتقاد بصحتها.

2- حفظ القرآن:

وصل إلينا القرآن محفوظا بالتواتر، فقد تم جمعه وتدوينه وحفظه بطريقة بديعة من عمل النبي نفسه، وقد تبدو هذه المهمة سهلة، لكن مع طول الزمان وكثرة أعداء القرآن فوصوله محفوظا إلينا بالتواتر هو أمر يستحق التأمل.

ويعد القرآن الكريم هو النص الديني الوحيد الموافق للعقل والذي وصل إلينا محفوظا بالتواتر بهذا الشكل البديع، مما يسهل على العقل الباحث عن الحقيقة الوصول إليه والاعتقاد بصحته، اعتمادًا فقط على هذين النوعين الأولين من أنواع الإعجاز!

3- الجزئيات الغيبية:

من أهم معجزات الأنبياء هي إخبارهم بالجزئيات الغيبية، فهذا جزء أساسي من معجزة النبي الحقيقية التي تدل على نبوته، فالنبي قد أُرسل للبشر بشكل أساسي كي ينقل لهم الرسالة الإلهية، أي أنه يتميز عنهم بامتلاكه علما من عند الله لا يستطيعون معرفته وحدهم، ولذلك فجزء أساسي من معجزة النبي هي إخبارهم بجزئيات وتفاصيل لا يعلمها إلا الله.

وهذا الإعجاز يختلف عن النوعين السابقين باحتياجه لبحث تاريخي آخر بجوار البحث القرآني نفسه، فإذا وصلنا لأحداث تاريخية متواترة الصحة كانت غائبة عن النبي وقت نزول القرآن، ثم نزل القرآن يخبر بها؛ فقد ثبت هذا النوع من الإعجاز.

وهذا الإعجاز موجود في القرآن، إذ يخبر القرآن بجزئيات غيبية مستقبلية لم تكن قد حدثت وقت نزوله، مثل “وهم من بعد غلبهم سيغلبون”، “سيهزم الجمع ويولون الدبر”، “لتدخلن المسجد الحرام إن شاء الله آمنين”، “والله يعصمك من الناس”، “إذا جاء نصر الله والفتح”، “تبت يدا أبي لهب وتب” دلالة على استمرار كفره وعدم إسلامه، ومثل ذلك كثير.

كما يخبر بغيبيات تاريخية ماضية، مثل قصص الأنبياء التي لا يعلمها إلا خواص أهل الكتاب وقتها، والذين اعترفوا بصحتها، ومع كون النبي لم يشهد هذه الأحداث ولم يتعلمها من بشر “وما كنت بجانب الغربي إذ قضينا إلى موسى الأجل وما كنت من الشاهدين”.

ومثل إخباره بغيبيات مكانية في نفس وقت نزوله “يحلفون بالله ما قالوا ولقد قالوا كلمة الكفر”، ومثل إخباره بدواخل النفوس من حول النبي “وممن حولكم من الأعراب منافقون ومن أهل المدينة مردوا على النفاق لا تعلمهم نحن نعلمهم” وقد أثبتت الأحداث التاريخية التالية صدق هذه الآيات حيث تعرض المنافقون للنبي بالإيذاء وحدثت ردة بعد وفاة النبي.

4- الجزئيات العلمية التجريبية:

ومن معجزات القرآن الغيبية أيضًا إخباره ببعض الحقائق العلمية التجريبية المادية الجزئية التي كانت مجهولة للناس وقت نزوله، ثم عرفتها البشرية فيما بعد، “وألقى في الأرض رواسي أن تميد بكم”، “يخرج من بين الصلب والترائب”.

ويحتاج إثبات هذا النوع من الإعجاز إلى إثبات صحة المعلومة العلمية نفسها بشكل يقيني، والتأكد من دلالة النص القرآني على المعنى العلمي هذا بالذات بشكل يقيني.

وهذا الإعجاز العلمي مع أهميته إلا أن البعض بالغ فيه، فقام بتفسير الآيات تفسيرات لا تحتملها الألفاظ ولا دليل على صحتها، كما قام بجعل أية نظرية علمية ظنية علما حقيقيا وحاول أن يثبت أن القرآن الكريم قد تحدث عنها، فخالفوا القواعد السابقة.

5- شمول وتوازن الجزئيات الاعتقادية والتشريعية:

بعد ذلك يجيء القرآن بالكثير من التفاصيل والجزئيات الاعتقادية والتشريعية، وهي مع كونها جزئية تفصيلية لا تخالف العقل – تطبيق للحقائق والقواعد العامة التي وصل إليها.

وهي أيضا متنوعة تنوعًا شديدًا، ومتوازنة توازنًا بديعًا، فمثلا في الجزئيات التشريعية؛ لم يهتم القرآن بالجانب الروحي مع إهمال الجانب الاجتماعي كما يفعل بعض المصلحين وكما في بعض الكتب الدينية الواصلة إلينا، كما لم يقم القرآن الكريم بالعكس أيضًا، بل نجد في القرآن توازنا بديعا وشمولا واسعا لكل الجوانب الأخلاقية والأسرية والاجتماعية، والنواحي الحياتية والأخروية، ولحقوق الإله وحقوق العباد، في تكامل وتداخل وتوازن بديع.

بل إنك تجد الآية الواحدة أو الآيات المتتالية تشمل مسائل اعتقادية مع أخرى أخلاقية مع ثالثة اجتماعية بترابط وتوازن وتكامل بديع، ومع وحدة موضوعية فريدة إذ أن المسألة الاجتماعية والروحية في القرآن نابعتان من مسألة اعتقادية أصلا، وهكذا، وهو ما قد لا يكون له مثيل في أي كتاب آخر، “نساؤكم حرث لكم، فأتوا حرثكم أنى شئتم، وقدموا لأنفسكم، واتقوا الله واعلموا أنكم ملاقوه، وبشر المؤمنين”.

6- تنوّع طرق التعليم:

ويختلف البشر في قدراتهم على معرفة الحقائق، فمنهم من لا يقنع إلا بالبراهين السليمة المبنية على المعلومات اليقينية الصحيحة، فهم أهل البرهان والحكمة. ومنهم من طريقته لاكتساب المعرفة هي الجدل، حيث يبنون معرفتهم على المسلّمات التي يعتقدون بها، والمشهورات الشائعة في مجتمعاتهم، ويجادلون دفاعا عنها، فهم أهل الجدل. ومنهم البسطاء الذين يتبعون أقوال الثقات، فيقبلونها ويظنون بصحتها، ويتحركون بناء على خطب ومواعظ هؤلاء الثقات، فهم أهل الخطابة والموعظة.

ويلاحظ في القرآن الكريم اشتماله على كل طرق التعليم، خاصة عند تناوله للاعتقادات المهمة، فيحتوي على التعليم البرهاني والجدلي والخطابي، حيث توجد به أدلة عقلية برهانية لأهل البرهان، ويحتوي على جدل مبني على المسلمات يخاطب به أهل الجدل، ويحتوي على خطاب وعظي مناسب لأهل الخطابة، وقد أشار الفيلسوف ابن رشد لهذا الإعجاز وفصّل فيه، كما يشير القرآن الكريم صراحة لاهتمام الرسالة الإلهية بالمراتب الثلاث: “ادع إلى سبيل ربك بالحكمة والموعظة الحسنة وجادلهم بالتي هي أحسن”.

وهذا بخلاف الكتب الأخرى التي تجدها يغلب عليها أحد الأساليب الثلاث دون غيرها، ولا يستطيع مؤلف واحد أن يدمج بين هذه الطرق المختلفة، مع تمكنه ونبوغه في كل طريقة منها، وبهذا التناغم العجيب.

بل إن الآية الواحدة أو السياق الواحد من الآيات تجد فيه ما يناسب كل طريقة من طرق التعليم “فليأتوا بحديث مثله إن كانوا صادقين، أم خلقوا من غير شيء أم هم الخالقون، أم خلقوا السماوات والأرض بل لا يوقنون”.

لكن من المعروف أنه في كثير من الأحيان تتعارض طرق التعليم هذه مع بعضها البعض، فالخطاب البرهاني المناسب لبعض الخواص قد يؤدي لمشكلات كثيرة إن تم توجيهه للعامة، والخطاب الموجه للعامة قد يرفضه بعض الخواص،

والخطاب الجدلي قد يثير الشكوك والشبهات عند الجمهور وقد يرفضه أهل البرهان تماما، فكيف تعامل القرآن الكريم مع هذه المشكلة؟ وهل توجد أوجه أخرى للإعجاز في القرآن الكريم؟ هذا ما سنتناوله إن شاء الله في الجزء الثاني من هذا المقال.

اقرأ أيضاً:

النبي ، الإنسان الكامل والرئيس الأول

هل أنبأنا القرآن الكريم حقا بوجود الثقوب السوداء؟

الفلسفة والدين … كيف ولماذا!

*****************

لمتابعة قناة اليوتيوب لأكاديمية بالعقل نبدأ، اضغط هنا

لقراءة المزيد من المقالات، اضغط هنا

أحمد عزت

د. أحمد عزت

طبيب بشري

كاتب حر

له عدة مقالات في الصحف

باحث في مجال الفلسفة ومباني الفكر بمركز بالعقل نبدأ للدراسات والأبحاث

صدر له كتاب: فك التشابك بين العقل والنص الديني “نظرة في منهج ابن رشد”

حاصل على دورة في الفلسفة من جامعة إدنبرة البريطانية

حاصل على دورة في الفلسفة القديمة جامعة بنسفاليا