أسرة وطفل - مقالاتمقالات

قصة تتكرر دون وعي

جلس الأب مع أولاده وزوجته، في عصر أحد الأيام، يشربون الشاي ويتبادلون أطراف الحديث، وإذا بهم يسمعون طارقًا يطرق الباب، فأشار الأب إلى أحد أبنائه أن ينظر من الشباك من يطرق الباب، فذهب الولد وعاد إلى أبيه، وأخبره أن فلانًا زميل الأب يطرق الباب، والأب لا يريد مقابلة هذا الزميل، فقال الأب لابنه: “اذهب وافتح الباب وانظر ماذا يريد، وإذا سألك عني فقل له: أبي غير موجود في البيت”، فذهب الولد وفتح الباب واستفسر مِن الطارق عن الشيء الذي يريده، فقال له الطارق: “أين أباك؟” فأجابه الولد بتلقائية قائلًا: “أبي (قال) إنه غير موجود في البيت”! فاستغرب الطارق من الإجابة وانصرف، عاد الولد إلى أبيه، فسأله الأب: “ماذا فعلت؟” فقال له الولد بتلقائية: “لقد قلت له إنك قلت لي إنك غير موجود في البيت”!

ما هي الأسباب التي تجعل الطفل يكذب؟

يعامل المربون الطفلَ عادة على أنه مجرد طفل، وينسى المربون أن هذا الـ”مجرد طفل” إنسان مكرَّم له شخصيته وله مشاعره وله أفكاره وله تفاعله وحساسيته المرهفة، مع كل كلمة يسمعها أو كل تصرف يمارس معه، والطرفة التي أوردناها آنفًا توضح بجلاء أن الطفل لا يفرِّق بين الصدق والكذب، فهو في البداية يكذب تقليدًا للكبار، لأن الطفل يعتقد أن الكبار دائمًا على صواب، ومن ثم فإنه يقلدهم في كذبهم دون أن يعرف أنه يرتكب خطأ.

ربما تطور الأمر لدى الطفل مستقبلًا، ليصبح له شخصية مزدوجة، تتقمص شخصية الكاذب مرة، كما تتقمص شخصية الصادق مرة أخرى، فهو يكذب مرة ويصدق أخرى ولا يشعر أدنى شعور بأنه متناقض، بل الأمر عنده طبيعي، وقد يستغرب عندما يعاتبه أو ينهره أحد، بمعنى آخر، فمثل هذا الطفل قد ضمرت عنده “العضلة الأخلاقية” وتراجع عملها، فأصبح الكذب في موقف لا يناقض الصدق في موقف آخر عنده، وأصبح الأمر كما نقول في أمثالنا الشعبية “كل شيء في بابه”، وهذه الازدواجية تكاد تكون ظاهرة في مجتمعاتنا، وهناك ما يغذيها ومن يرسخها في حياة الكبار قبل الصغار.

اقرأ أيضاً: عملية التربية بين الرب والإنسان وقداسة من يحملها

التربية بالقدوة والفعل الصامت

مسؤولية المربي

اضغط على الاعلان لو أعجبك

إن المسافة بين القول والفعل هي عين المسافة بين الصحة والمرض، والتقدم والتخلف، والاستقامة والانحراف. وبناء عليه، فإن التربية بالأفعال والسلوكيات هي التربية الأنيقة والجذابة، كما يصفها الدكتور عبدالكريم بكار، وهي الأصل والأساس، وأكبر مشكلة نعاني منها على صعيد بناء الأجيال عدم وجود ما يكفي من المربين الذين ينجذب إليهم الصغار ويعجبون بأوضاعهم وأحوالهم!

إننا إذا عاملنا الطفل على ما هو عليه الآن فسنعامله بالغلظة، لكون بعض سلوكياته لم تضبط بعد، وسنحاسبه على كل أخطائه، لكن إذا عاملناه على ما ينبغي أن يكون عليه في المستقبل، كونه مشروع ابن نرى المستقبل في عينيه وعبره، فإننا سنعامله بالرحمة والرفق والاحترام، وهذا ما ينبغي أن نفعله، فعملنا مع أبنائنا لا يتوقف عندهم بل يتجاوزهم إلى من بعدهم من الأجيال، فإذا أصغينا إلى أبنائنا مثلًا، فإننا نكون قد دربناهم على الإصغاء إلى أبنائهم في المستقبل.

إن القدوات يؤثرون فينا على نحو صامت، ويدفعون بالفضائل إلى سطح الوعي، والأمة في حاجة إلى أكبر عدد منهم. وفي اعتقادي أن التربية عمل صامت أكثر من أن تكون تعليمات وتوجيهات. والقدوة في حياة المربين هي القيادة الناعمة التي –للأسف الشديد– غابت عن كثير من المربين في الساحة الإسلامية.

تعرف على: علاقة الأسرة بالبناء الفكري للطفل؟

مسؤولية المربي

مع هذا، قد تجد من يقول لك: الهداية من الله، ألم تسمع قوله تعالى: “إنك لا تهدي من أحببت ولكن الله يهدي من يشاء”؟ ثم ألم يكفر ابن نبي الله نوح عليه السلام؟ ويؤمن نبي الله إبراهيم في بيت أبيه آزر صانع الأصنام؟ ألم تكفر امرأة لوط نبي الله عليه السلام، وتؤمن آسيا بنت مزاحم زوجة فرعون عدو الله؟ هذا الكلام صحيح وحق، لكنه حق يراد به باطل، وهو يثبت القاعدة ولا ينفيها، ومن يتحجج بهذه النصوص فإنما يريد الهروب من تحمل مسؤوليات التربية وتبعاتها، وإلا من الذي أخبره أن ابنه سيكون فاسدًا أو صالحًا، وأنه لا فائدة من التربية والاهتمام والرعاية التي يقدمها له؟ إن مثل هذا الطرح يعتبر تبريرًا ومشجبًا يعلق عليه البعض مبررات تنصله من مهمة التربية، والله سبحانه وتعالى لم يطالب المربي إلا ببذل كامل السبب في ميدان تربية من يربيهم، فإن صلحوا فالحمد لله رب العالمين، وتلك هداية الله وفضله، وإن انحرفوا وفسدوا فتلك حكمة الله ومشيئته، ويكون المربي في كلا الأمرين مأجور، قد أخلى ذمته وبرّأ ساحته أمام ربه سبحانه وتعالى، وأمام من يربيهم، فقد بذل كل الأسباب التي يستطيع معها رجاء صلاحهم.

ولدك حصاد تربيتك

مسؤولية المربي

إن ما بذرناه في تربة أبنائنا، وما غرسناه في طينتهم، سيثمر حتمًا، فالطفل الذي يعيش في جو من السماحة، وفق تعبير الدكتور بكار، يتعلم محبة الناس. والطفل الذي يعيش في جو من العداوة، يتعلم العنف والقتال.

كما أن الطفل الذي يعيش في جو من الأمن، يتعلم حسن الظن. والطفل الذي يعيش في جو من الانتقاد يتعلم الشجب.

مثله الطفل الذي ينشأ في جو من التشجيع فإنه يتعلم الثقة. والطفل الذي ينشأ في جو من التهكم، يتعلم الخجل.

الطفل الذي يذكِّره أهله بعيوبه ونواحي قصوره، أو يشعرونه أنه يشكل عبئًا عليهم، إنهم بذلك يجعلون آثار علته العقلية أو الجسدية مضاعفة عليه أضعافًا عديدة.

اقرأ أيضاً: فنيات تربوية فى المعاملة الأبوية مع الطفل

اقرأ أيضاً:  التربية ودورها في إنشاء الطفل تنشئة سليمة

* تنويه: الأفكار المذكورة في المقال لا تعبر بالضرورة عن رأي الموقع.

_________________________________

لمتابعة قناة اليوتيوب لأكاديمية بالعقل نبدأ، اضغط هنا

لقراءة المزيد من المقالات، اضغط هنا

د. عمرو أبو الحسن المنشد

مدرس أمراض الصدر كلية الطب – جامعة أسوان