مرسي جميل عزيز .. الجزء الثاني

الموهبة شرط للنجاح، لكن الموهبة وحدها لا تكفي للتفوق والتميز ما لم تُصقل بكثرة الثقافة والاطلاع والتأمل، كان مرسي جميل عزيز قارئًا من الطراز الأول، وكان أصدقاؤه من الكتاب والمثقفين يسافرون فيحضرون له معهم أحدث الكتب المطبوعة بالخارج، فيجدونه قد اشتراها بالفعل، يقول الشاعر الكبير حسين السيد: “إن ما يميز مرسي جميل عزيز عنا أنه كان يقرأ كثيرًا”.

لا تخفى العبرة من ذلك على كل من أراد أن يبني نفسه في أي مجال فني أو ثقافي، فنقول له عليك بكثرة القراءة، فهي التي تمنحك النضح والعمق والفلسفة، وهكذا كان مرسي جميل عزيز في كل ما يكتب، مفكرًا عميقًا مهذب الموهبة منمق الصياغة حتى أغانيه الشعبية كانت في منتهى الأناقة، يختار كل كلمة بوعي وعناية منقطعة النظير، يرسم بالكلمة مثلما يرسم الرسام بريشته، فترى الصور تتحرك أمام عينيك وأنت تستمع لأغانيه.

مرسي جميل مهندس الأغنية المصرية

يقول في أغنية “أنا باستناك” لنجاة: “مرايتي قوليلي يا مرايتي، حبيبي ما جاش لدلوقتي وسابني لوحدتي وإنتِ”، وفورًا يجعلك تتخيل الحبيبة واقفة تتزين أمام المرآة انتظارًا لوصوله الذي تأخر كثيرًا فتشكو للمرآة، فأنت هنا ترى الكلمات في صور تتحرك لا تسمعها فقط.

يقول على لسانها: “أبص لروحي واتصعب على روحي نسيني ليه”، ولنقف عند كلمة: “أبص لروحي واتصعب على روحي”، هو لم يقل لماذا هي تتصعب على روحها، وهذا لأنه ذكي يعرف أن المشاهد.. أقصد المستمع، وعلى كل فهو ليس عنده فارق بين المشاهد والمستمع وقد حول الكلمات إلى صور، لكن لأنه ذكي ومثقف عرف أن المتلقي سيفهم بسهولة لماذا هي تتصعب على روحها دون الحاجة للشرح والتوضيح.

فعندما تنظر الفتاة إلى المرآة وتتصعب على روحها فلا بد لأن الحب قد تأخر على هذا الجمال، هذه الوردة اليانعة لا يجب أن تذبل قبل وصول الحبيب، فمتى سيصل؟ فهي تتحسر على الأيام التي تضيع سدى، لكنه لم يقل كل هذا في كلمات كثيرة بل في كلمتين “واتصعب على روحي”، وهذا أسلوبه دائمًا: الإيحاء بالمعنى باستخدام كلمات قليلة تُغْني عن السرد الطويل.

انظر لقوله “وسابني لوحدتي وإنتِ”، هو يقصد سابني لك ولوحدتي لكنه قالها بطريقة لم يقلها أحد من قبل “سابني لوحدتي وإنتِ”، فجاءت أشد رقة ورشاقة وابتكارًا بكثير، فهو لم يسبقه إلى هذا التعبير أحد، ويقول: “وأدوّب لك في شرباتي شفايف الورد”، انظر لتعبيره عن شربات الورد لقد جاء مختلفًا عما قاله الشعراء الغنائيين من قبله، هم قالوا “شربات ورد” هكذا مباشرة، ولا عيب في ذلك، لكن التميز الأكثر أن تقولها برقة مبتكرة جديدة وغير عادية، فتكون: “وأدوّب لك في شرباتي شفايف الورد”، هذا هو خيال الشاعر الكبير الذي يفكر أكثر وتسعفه دائمًا موهبته ومرجعيته الثقافية، فيجد الجديد فيصنع هذا الخيال المختلف في اللفظ والمعنى وفي هذه الصور العاطفية الحية.

رأي النقاد والمثقفين في مرسي جميل عزيز

الناقد السينيمائي أحمد صالح

لذلك فليس غريبًا أن يقول عنه السيناريست والناقد السينيمائي أحمد صالح: “إني أرى في أغانيه صورًا وحركة وميزانسين، إني أرى في أغانيه سينما”، أو أن يقول السيناريست والناقد السينيمائي رفيق الصبان: “إن قصائده وأغانيه هي خليط رائع من فنون الشعر والدراما والسينما“.

مرسي جميل عزيز، لم تكن كلماته تعبر عن موهبته فقط ولا عن ثقافته فقط ولا عن ذكائه وخفة ظله فقط، بل خلاصة كل ذلك معًا، مثل الطبخة التي تحتوي على عناصر لذيذة كثيرة، فلا يمكن أن يكون مذاقها وليد عنصر واحد بل كل العناصر والتوابل في نفس الوقت، والأمثلة على قدرات مرسي جميل عزيز في أغانيه كثيرة ولا يمكن سردها كلها في مقال، فهي تحتاج إلى كتاب من عدة أجزاء، بل ومن المهم جدًا طباعة أعماله للباحثين والدارسين والشعراء ليتعلموا منها فتكون في مجلد أو أكثر ليسهل استخدامها، صحيح أن أغانيه حية في أعماله وفي الأذهان لكن يليق بإبداعات الشعراء الكبار أن تطبع لتتحقق الأغراض التي ذكرناها.

الناقد والأديب يحيى حقي

يقول الكاتب والناقد والأديب يحيى حقي في كتابه الهام “خطوات في النقد” عام 1962: “من الظلم ألا يدرَّس مرسي جميل عزيز، شاعرًا مرهف الحس بارع الإشارات حلو العبارة يعنى أشد العناية بوحدة الأغنية وضرورة احتوائها على معنى جديد، إنه يعبر عن الحالة وهو شديد الالتصاق بالشعب، وفي شعره ملامح فلكلورية كثيرة”.

الدكتور زكريا عناني

بينما يقول الدكتور زكريا عناني أستاذ الأدب العربي: “إن ما قدمه مرسي جميل عزيز بتنوعه وقيمته يفوق ما في كتاب الأغاني لأبي الفرج الأصفهاني بمجلداته الكثيرة”، ويقول المفكر والأديب الكبير عباس محمود العقاد: “إن في هذه الأغنية “يامه القمر ع الباب” من البلاغة أضعاف المئات من قصائد الشعر العربي!”.

لا غرابة في مضاهاة شعره العامي بشعر فطاحل الفصحى في التراث العربي، وهو في الأصل شاعر فصحى موهوب ومن القامات الكبيرة في مدرسة أبولو.

الدكتور أحمد هيكل

يقول وزير الثقافه الأسبق الشاعر وأستاذ الأدب الدكتور أحمد هيكل: “مرسي جميل عزيز شاعر عمودي بارع في المقام الأول، ينتسب إلى مدارس الشعر الحديث العربية والأوروبية، وينضم كونه شاعرًا رومانسيًا كبيرًا إلى شعراء مدرسة أبولو، ويمتد شعره بعمق إلى شعراء المهجر، لكنه اختار بذكاء الأغنية مجالًا لذيوع شعره وانتشاره، وقد تميز بثقافته الموسوعية، وتجربته في ذلك تشبه تجربة العقاد”.

الشاعر الكبير صلاح عبد الصبور

أما الشاعر الكبير صلاح عبد الصبور فيقول: “إلى جانب موهبته الفذة، ملك مرسي جميل عزيز ذكاءًا حادًا وذهنًا متقدًا، وتميزت روحه بالتحدي، فجاء إنتاجه بهذا الثراء، بيته شكّل ملتقى لأصدقائه نتحاور، كل يعرض ما يكتبه، جمعتني به وباقي الأصدقاء أجمل الذكريات، وسجلتها في كتابي }على مشارف الخمسين{، تحت عنوان }أصدقاء الضحك القديم{“.

الحقيقة، أنه لا يكفي مقال أو اثنان لشرح موهبة وتميز الشاعر الكبير مرسي جميل عزيز، فهذا شيء في حاجة إلى كثير من الكتابة لشرحه بما يكفي، وإذا أردت أن تلخصه في كلمات قد تكون “التمكن، والجمال، والعمق، والتدفق، والانسيابية، والمقدرة التي استعصت على المنافسة”.

مقالات ذات صلة:

الجزء الأول من المقال

سمير الإسكندراني

كيف تؤثر الأغاني على نفوسنا عند الاستماع إليها؟

* تنويه: الأفكار المذكورة في المقال لا تعبر بالضرورة عن رأي الموقع.