“مذكرات موظف عام”.. تجربة إدارية مفيدة
بات من المتعارف عليه أن أي موهبة أو قدرة مادية أو معنوية أو روحية أو طموح عالٍ أو إرادة صلبة أو خطة نظرية، لفرد أو جماعة بلا إدارة جيدة– لا تؤدي إلى تحقيق نجاح كبير، فالإدارة بوصفها فنًا وعلمًا في آن، هي التي تمكن من يمتلك أدواتها من بلوغ ما يريده من أهداف أو غايات. من أجل هذا فإن قراءة سيرة ذاتية لرجل صاحب خبرة إدارية متنوعة، محلية ودولية، يعد أمرًا مهمًا سواء بالنسبة إلى من يتصدون للمناصب العامة، أو من يمتلكون مؤسسات خاصة، يريدون لها النمو والتقدم.
وقد وجدت في سيرة الدكتور علي عبد العزيز سليمان التي عنونها بـ”مذكرات موظف عام.. تجربتي في ثلاث قارات”، والصادرة عن المكتبة الأكاديمية بالقاهرة عام 2022، ما يحقق هذا الغرض إلى حد كبير، لا سيما أنه –وإن كان راويها أو بطلها الأساسي– لم يغمط حقوق آخرين تعلم منهم واستفاد، سواء في مرحلته الأولى طالبًا بكلية الاقتصاد والعلوم السياسية جامعة القاهرة، ثم طالب دراسات عليا في جامعة أيوا، أو في مرحلته العملية والمهنية التي طالت، وتوزعت على مؤسسات مالية وإدارية، حكومية وخاصة.
في هذه الرحلة الطويلة التي انتهت بصاحبها وكيلًا أول لوزارتي الاقتصاد والتعاون الدولي، قبل توليه مناصب مهمة في البنك الدولي وفي البنك الإسلامي للتنمية وفي غيرهما، نجد أنفسنا أمام تفاصيل دقيقة تنبئنا بما مر به د. سليمان من مشكلات وكيف حلها، ومن عقبات وكيف تجاوزها، ومن أسئلة كان يجب أن يجيب عليها، وهي المشكلات والمتاعب والتساؤلات التي لا تزال قائمة في حياتنا الإدارية المصرية، وتحتاج ممن تتعلق بهم أن يستفيدوا بجلاء وجدية ممن سبقوهم على الدرب، لا سيما من أصحاب التجارب الناجحة والمتعددة.
من هو علي عبد العزيز سليمان؟
سليمان واحد من تكنوقراط مصر، الذين تعود أصولهم إلى ريفها العامر بالحكايات والأحوال، حيث بلدة أبيه في دلتا مصر، التي كان يزورها طفلًا، ويرى جيدًا الظروف التي يمر بها الناس هناك، ثم تمتد إلى مدينة القاهرة، حيث ولد وتعلم وامتلك خبرته الأولى، ووضع قدميه على أول طريق العمل، ثم الولايات المتحدة الأمريكية حيث التحق بعمل جديد بشركة استشارية كبرى في أحد ضواحي مدينة بوسطن في ولاية ماساتشوستس، منتصف سبعينيات القرن الماضي، فتعمقت خبرته وزادت معرفته الإدارية والاقتصادية باطلاعه على تجارب ملموسة ومهمات ذات بال.
مذكرات موظف عام
يبدأ سليمان مذكراته، التي جاءت في مائتين وثمانين صفحة من القطع فوق المتوسط، بإهداء لافت يقول فيه: “إلى أبي الذي آمن بالخدمة العامة، وإلى أمي زكية محمد رزق التي رعتنا بعد وفاته المبكرة، وأعطتنا الثقة والمُثل التي نتبعها في خدمة الآخرين”، ليقسمها إلى سبعة فصول عن: صور من الطفولة، العمل في مجال الاستشارات الحكومية، العمل خبيرًا اقتصاديًا في جزر المالديف، العودة إلى مصر والالتحاق بالعمل في بنوك استثمار، ثم العمل في وزارة الاقتصاد والتعاون الدولي، فالانطلاق إلى مجال التعاون الدولي، وأخيرًا العمل في المؤسسة الإسلامية للقطاع الخاص في جدة بالمملكة العربية السعودية، حيث أنهى حياته المهنية رئيس مؤسسة مالية كبرى تتبع البنك الإسلامي للتنمية، وتهتم بتمويل القطاع الخاص في آسيا وإفريقيا وبعض دول أوروبا.
جعل سليمان الهدف من نشر مذكراته، التي كتبها منجمة طوال مدة دراسته وعمله– نقل تجربته إلى الأجيال الصاعدة من الإداريين في مجال المال والاقتصاد خصوصًا، لكنها في الوقت نفسه، ونظرًا لما حوته من معلومات وطرائف ومواقف، صارت مفيدة أيضًا للقارئ العام، الذي يريد أن يطلع على جانب من تاريخ الإدارة المصرية المعاصرة، ويقف على ما تمكن بعض أبناء مصر النابهين من نقله من خبرات اكتسبوها عبر الاحتكاك بمؤسسات متنوعة في قارات مختلفة، وفي ظروف اقتصادية واجتماعية متباينة.
كواليس الإدارة بالبنوك والحكومة والمنظمات الدولية
تحفل هذه المذكرات بأسماء بارزين في الاقتصاد والسياسة والفكر والثقافة، وفي التفاوض مع دول أخرى وصناديق استثمار عربية، لإبرام اتفاقات اقتصادية، وكذلك في مجال البحث العلمي سواء داخل مصر وخارجها، احتك بهم مؤلفها، أو شاركهم التفكير في شؤون البلاد، أو التصدي للمشكلات التي تعترض طريقها، لنقف في هذا كله على كيفية إدارة جانب من الشأن المصري العام، يتعلق بالطريقة التي تعمل بها دواوين الحكومة، أو البيروقراطية المصرية، في زمن ليس بالبعيد، بما يساعدنا –من دون شك– على تشخيص الداء الذي يصيبها، ومنه الصراع بين الوزارات وتضارب الاختصاصات، وبطء القرار وانفصاله أحيانًا عن متطلبات المجتمع، وغياب تراكم الجهد والعطاء، والتكالب على المواقع والمناصب المتقدمة داخل الوزارات، ونكران الجميل بين المديرين الكبار، ثم وصف الدواء الناجع النافع الذي يمكن أن يرأب الصدع ويرمم الشروخ ويجلي الطريق –على قدر الاستطاعة– أمام الراغبين في إخراج البلاد من أي وضع صعب تمر به.
لا تقتصر المذكرات على شرح تفاصيل ما يجري في دواوين الحكومة، لكنها تتطرق أيضًا إلى تجربة صاحبها مع البرلمان، في مناقشته للاتفاقيات والمعاهدات والبروتوكولات وخطابات النوايا التي تبرمها مصر مع دول عديدة، ليضع يده هنا على واحدة من المشكلات التي نعانيها، وهي عدم إلمام أغلب النواب بالمسائل الفنية في مجالي الاقتصاد والمال والأعمال والإدارة، ثم يضع يده على مشكلة أخرى تتعلق بالضغوط التي يمارسها أصحاب المصالح الخاصة، لا سيما من رجال الأعمال وغيرهم، على المؤسسات التشريعية والتنفيذية، بما يضر أحيانًا بالصالح العام.
إننا أمام مذكرات رجل خبير مهموم بوطنه، يعرف الآن جيدًا ما يحتاج إليه، ويرى أن دوره الحالي –بعد نضوج تجربته واستوائها على سوقها– أن ينقل ما حصّله من معرفة وخبرة إلى آخرين، لعلها تجد من يطلع عليها في أناة، ويستفيد منها في إخلاص، ويترجم ما عرفه إلى ما يساهم به في رفعة بلده ورقيها.
مقالات ذات صلة:
الاقتصاد الجديد .. اقتصاد المستقبل
أوقات الأزمات وتجلي التفكير العلمي
لا تصدق كلمة قصيرة تقول لك: الأبحاث تقول كذا!
* تنويه: الأفكار المذكورة في المقال لا تعبر بالضرورة عن رأي الموقع.
_________________________________
لمتابعة قناة اليوتيوب لأكاديمية بالعقل نبدأ، اضغط هنا
لقراءة المزيد من المقالات، اضغط هنا