مجنون “جوجول” عظمة الأدب
نيقولاي جوجول الكاتب الروسي الشهير من مؤسسي الأدب الروسي. وُلد عام 1809 وتوفي عام 1852. أشهر أعماله رواية النفوس الميتة وقصته القصيرة المعطف، بالإضافة إلى المسرحيتين الكوميديتين المفتش العام وخطوبة.
كان أبوه من صغار الملاك لكنه كان شاعرًا وعاشقًا للأدب، وكان له أصدقاء من الأدباء والفنانين المعروفين يزورونه في البيت في أمسيات أدبية وفنية، فأيقظت هذه البيئة مواهب ابنه وفجرت ما بداخله من طاقات أدبية كامنة.
صار نيقولاي جوجول مولعًا بقراءة الكتب وبالذات كتب بوشكين، ومحبًا للتراث الروسي والحكم والأمثال الشعبية، وبدأت موهبته الأدبية في الظهور فعليًا في المدرسة، إذ كتب عددًا من المحاولات المبكرة، ثم بدأ يركز على تثقيف نفسه بمنتهى الحماسة معتقدًا أنه مقبل على دور مهم في خدمة الناس عبر موهبته الأدبية، فكتب رسالة إلى والدته يقول فيها: “أنا أمتحن قواي، لكي أساهم في رفع مستوى العمل لصالح الوطن وسعادة المواطنين ولأجل رفاه الناس”. لكنه بعد أن أنهى دراسته وسافر إلى بطرسبورج ليشق طريقه نحو المجد الأدبي واجه الحقيقة القاسية، فكتب من هناك إلى أمه يقول: “لا روح تشع في الشعب على الإطلاق، فالناس مهتمون بالمصالح التافهة والذاتية”.
مذكرات مجنون
رواية مذكرات مجنون تدور حول الشاب الفقير بوبريشتشين، أحد موظفي الدرجات السفلى في دائرة حكومية بمدينة بطرسبورج، وتتناول أحلام اليقظة التي يخترع فيها الإنسان عالمًا بديلًا لعالم الحرمان وانعدام التقديرالمحبط، الذي لا يروق له فيه وضعه المادي والاجتماعي والإنساني والعاطفي، فهذا البؤس هو ما سلم بطل الرواية إلى تلك الحالة من الأحلام المرضية، التي إذا استفحلت فإنها تسبب الجنون الكامل.
جعل جوجول الرواية كلها على لسان المجنون نفسه، فبدلًا من أن يحكي عنه راح يحكي من داخله، لنرى ببساطة كيف تطورت لديه مراحل الجنون لتوصله إلى مستشفى المجانين، ولنتعرف على المعاناة التي سلمته إلى هذا المصير ودور المجتمع فيها، وما الذي يفعله الظلم الاجتماعي في البعض بحيث يجعلهم ينهارون، فمنهم من ينتحر، ومنهم من يدخل في دائرة يأس لا مخرج منها، ومنهم من يفقد عقله مثل بوبريشتشين.
بطل الرواية صاحب وظيفة محتقرة لا يفعل فيها غير أن يبري أقلام الكتابة للمدير، المدير الذي لا يراه بوبريشتشين ولم يسبق له أن رأى مكتبه يومًا من الداخل، دليلًا على الطبقية الشديدة والتهميش القاسي لبعض الناس، والذي يتجاوزون فيه الحرمان من الاندماج في المجتمع إلى الحرمان من أن ينظروا بأعينهم مجرد النظر إلى من فوقهم في ترتيب السلم الاجتماعي، أو مجرد النظر إلى الأشياء التي هم محرومون منها، بالطبع فإن بوبريشتشين يتقاضى عن هذه الوظيفة التافهة أجرًا ضئيلًا لا يكفيه لشراء رداء يبدو فيه بمظهر لائق، ولهذا فهو يبدو دائمًا بائس المظهر لدرجة محرجة بل ومضحكة.
ثم أنه أحب ابنة المدير الرقيقة الملائكية الجميلة ما أن زارت المكان مصادفة، ولكن هيهات، فمن هو لترضى بمثله تلك الفاتنة التي وقع في غرامها عن غير قصد منه، هذا الواقع القاسي يجعله يبدأ في اختراع الأحلام التي تعوض حرمانه، وليعيش في عالم الخيال حياةً من المستحيل أن يعيشها على أرض واقعه البائس الحزين، فكرة الرواية بهذا الشكل كانت مبتكرة للغاية وشديدة العبقرية وغير مسبوقة في ذلك الزمان، والخيال الأدبي فيها يتخطى الحدود التي كانت معروفة في وقتها، وإذا أضفنا إلى ذلك أن جوجول أتم كتابتها في الخامسة والعشرين من عمره فلا شك أن هذا سيضاعف الإحساس بمدى عبقريته.
مع ملاحظة أن جوجول لا يقدم بطله باعتباره شخصية نادرة المثال من الناحية النفسية، بل يقدمه نموذجًا لمعاناة كل الفقراء والمحرومين، وهذا ما زاد الرواية قيمة وفسر كيف أثارت الأوساط الأدبية والفكرية عند صدورها، وحازت على درجات خيالية من الإعجاب، وقفزت بجوجول إلى مصاف الأدباء الكبار المشهورين.
مجنون جوجول لم يكن مجنونًا بل كان شخصًا عاديًا من ملايين المهمشين والمسحوقين والمظلومين، الذين لا يقدرهم المجتمع ولا يعيرهم أي انتباه، فيبدو الأمر كأن المرض النفسي الذي ظهر عليه –وهو نوع من الفصام أو الشيزوفرينيا– كان شيئًا منطقيًا أو مصيرًا حتميًا بالنظر إلى كل ما وقع عليه من ظلم وقسوة، وليس هو فقط فمثله كثير من المطحونين.
وقوعه في حب ابنة المدير التي هي حلم مستحيل له كان القشة التي قصمت ظهر البعير، فقد أورثه الجنون، حتى أصبح يسمع الكلاب وهي تتكلم مع بعضها، ويظن بأنه ملك إسبانيا وأن الصين هي نفسها الهند لكن الناس لجهلهم يعتقدون أنهما دولتان، ثم يبدأ في تحريض الناس على الاستعداد للحرب من أجل تحرير القمر، لأن أنوف الناس تسكن القمر ولهذا لا نستطيع رؤية أنوفنا.
مذكرات مجنون تبين أوجه الظلم والقسوة
بالطبع فإن جوجول هنا يسخر من ذلك القدر الضخم من الجنون الذي يمكن أن يسببه الظلم الطبقي الشديد للإنسان، ولعل هذا ما دفع تشايكوفسكي للقول عنه: “إنه قادر على أن يرسم شخصية كاملة بضربتين سريعتين، وهذا واضح كل الوضوح في يومياته هذه”.
تريد الرواية أن تقول إن هذا المسكين كان مضطرًا إلى الجنون نتيجة حرمانه من أبسط حقوق الإنسان، ثم يصور جوجول هذا الجنون ببراعة وابتكار، إذ إن بطل الرواية يتخيل أن الفتاة الجميلة ابنة المدير تقول عنه لصديقتها كلامًا من نوع: “ذلك الفتى الذي يبري الأقلام خارج مكتب أبي، إنه لطيف إنه لا يهتم بمظهره، لكن متى كان العظماء يهتمون بمظهرهم، لكنه مع ذلك يبدو نبيلًا وعاقلًا وفيه جاذبية من نوع خاص”.
سنلاحظ أن هذا ما كان يتمنى بوبريشتشين أن تقوله الفتاة، لكنه حوله إلى واقع في خياله ثم حول الخيال نفسه إلى واقع، ثم راح مع الوقت يتمادى في تلك اللعبة إلى درجة الهذيان، ويبدأ ظهور هذيانه للناس عندما يخبرهم بأنه ملك إسبانيا، وعندما يُقتاد إلى مستشفى المجانين يفسر ذلك لنفسه بأن الأمراء الإسبان جاءوا ليأخذوه إلى بلادهم ليتسلم العرش، وفي المستشفى كانوا يضربون المجانين، وعندما جلدوه بالسوط كان يفسر ذلك بأنه أحد الطقوس أو التقاليد الإسبانية لحفل تسيلم العرش للملك.
انظر إلى قدر البكاء عند قراءة ما يقول، إنه نتاج فعل البشر ببعضهم من ظلم وقسوة، وهذا ما عبر عنه جوجول من خلال هذه الرواية المبتكرة، وذلك هو الأدب الحقيقي الذي يضعك أمام المأساة وهي بأعلى درجات الفضح والانكشاف.
مقالات ذات صلة:
الأدب الفيروسي في ممالك الحب والنار
* تنويه: الأفكار المذكورة في المقال لا تعبر بالضرورة عن رأي الموقع.
_________________________________
لمتابعة قناة اليوتيوب لأكاديمية بالعقل نبدأ، اضغط هنا
لقراءة المزيد من المقالات، اضغط هنا