النقد العبثي.. قراءة في كتاب “مدارات المجاز في الخطاب” .. الجزء الأول
تمتاز كتابات الفيلسوف الأمريكي “هايدن هوايت” (1928- 2018م) بقدرتها على اجتراح آفاق معرفية رحبة تتجاوز البحث التقليدي في التاريخ –موضوع انشغاله الدقيق– إذ يقاربه بما هو خطاب سَرديّ، وهذا جعله قادرًا على المزج بين التاريخ والنقد الأدبي والثقافة، بالإضافة إلى انشغاله بمفهومات ذات طبيعة بينيّة مثل: الوطنية الحديثة، والرموز الأليجورية المؤقتة، والهوية والذاكرة الجماعية والخطاب الأوروبيّ، والخطاب الأسطوريّ، وتوظيف الأسطورة في إعادة بناء المجتمع والتغييرات التاريخية الفرعيّة، والاستغراب في تاريخ العالم، والمتحف التاريخي كفضاء يوتوبي، والواقعية التصويرية في أدب المذكرات، إلخ، (نادية هناوي: هايدن هوايت وأخلاقيات السرد).
يعرف القارئ العربيّ “هايدن هوايت” بأكثر من كتاب، منها: “محتوى الشكل الخطاب السردي والتمثيل التاريخي” ترجمة نايف الياسين 2017م (هيئة البحرين للثقافة والآثار)، وكتاب: “ما بعد التاريخ الخيال التاريخيّ في أوروبا القرن التاسع عشر” ترجمة شريف يونس عن المركز القومي للترجمة بالقاهرة 2022م.
هذه المقالة كانت مخصصة لقراءة كتابه الموسّع “مدارات المجاز في الخطاب مقالات في النقد الثقافي”، الذي صدرت ترجمته مارس الماضي عن المركز القومي للترجمة بالقاهرة، وهي آخر ما قدمه المترجم العتيد الدكتور محمد عناني للمكتبة العربية.
القوة العبثية في النظرية الأدبية المعاصرة
أقول كانت المقالة مخصصة لقراءة ما جاء في الكتاب من أفكار، لكن ذلك قد يطول بما لا يتناسب مع المساحة المتاحة هنا، لذا فقد آثرتُ تقديم المقالة الأخيرة في هذا الكتاب، وجاءتْ بعنوان “القوة العبثية في النظرية الأدبية المعاصرة”، ليس لقيمتها في ذاتها فحسب، وإنما لأهميتها للنقد العربيّ الذي يعيش أزمة متصلة على مدار أكثر من ثلاثة عقود، ولا يخفى على المتابع أن أحد جوانب هذه الأزمة سببه رهن مقولات النقد العربي وممارساته بمقولات النقد الغربي، ومسايرة موضاته المتتابعة.
قبل الدخول إلى عالم هذه المقالة، من الضروريّ أن أشير إلى ارتباطها بفكرة المجاز الأساسية التي يقوم عليها الكتاب، إذ يرى “هوايت” أنّ المجاز يخترق جميع الخطابات، ولا يقتصر ذلك على الخطاب التخييليّ أو الأدبيّ، وإنما يتسع الأمر لعموم الخطابات الإنسانية، حتى تلك التي تنزع نحو الواقعية أو تحاول تجنبه، فالمجاز: “الظل الذي تحاول جميع أنواع الخطاب الواقعي الفرار منه، لكنّ هذا الفرار لا جدوى منه”. وإذا كان حضور المجاز حقيقة لا سبيل إلى إنكارها، فإن الأمانة العلمية تفرض علينا إعادة صياغة السؤال ليغدو: “كيف تعمل المجازات في كل خطاب من العلوم الإنسانية؟”.
هذا يعني أننا بصدد مفهوم شديد الاتساع لمعنى المجاز، فهو لا يقتصر على مستوى العُدول اللغوي عن الاستعمال الحرفيّ للكلام، وإنما يصل بالمجاز إلى أفق أرحب يجعله عدولًا “نحو معنى أو مفهوم أو مَثَل أعلى آخر لما هو صحيح وصادق في الواقع”.
النقد العبثي والنقد السوي
المجاز يتسع ليضم جانبًا من عمليات الإدراك، بحيث تغدو عملية إدراكية مثل “الفهم” عملية مجازية، فالفهم –في جوهره– يقوم على تحويل غير المألوف أو الغريب إلى مألوف ومفهوم، أي أنه ينقل غير المفهوم من مجال الأشياء التي تعتبر “عجيبة” وخارج التصنيف إلى مجال ما من مجالات الخبرة، التي سبق تشفيرها تشفيرًا يكفي للإحساس بأن لها فائدة بشرية أو لا تتضمن تهديدًا، أو بأنها تُعرف بما يرتبط بها. ولا يمكن لهذ الفهم إلا أن يتسم بأنه مجازي، إذ إن تحويل غير المألوف إلى مألوف عملية مجازية، وتعتبر تصويرية بصفة عامة. (ص16).
انطلاقًا من هذا التصور لمفهوم المجاز يتناول “هوايت” في الفصل الأخير “القوة العبثية في النظرية الأدبية المعاصرة”، ويُميِّز بوضوح بين “النقد العبثي” و”النقد السَّويّ”، فالنقد السّويّ يشمل تلك الممارسات التي تنطلق من الاعتقاد بأن للأدب معنى، ويمكنه أن يزيد خبرتنا بالحياة، وهذا يعني أنّ النقد مجاز، إذ يُقدّم خبرة جديدة، في إطار وظيفته التي تجعل الأدب مألوفًا وقريبًا من القرّاء.
لقد ظلّ النقد قرونًا طويلة مخلصًا لتلك الوظيفة، لكننا مع الحداثة وما بعدها وجدنا أنفسنا إزاء نقد آخر أو إزاء مجاز آخر يصفه “هوايت” بالعبثيّ، الذي لا يقصد الكشف أو البحث عن المعنى باعتباره ممارسة علمية، النقد هنا ممارسة مغلقة متعالية، وليس من غايتها فهم النص وتقديم هذا الفهم للقرّاء، لكنها تستهدف إثارة الدهشة فحسب!
بالتأكيد، لا تنفصل تلك الرؤية عن فهم النقاد العبثيين للنص، فالنص لديهم مقصود لذاته ولا علاقة له بسياقه الاجتماعي والتاريخي، النص وثن يطوفون حوله، ولأنه كذلك فقد جرى تضخيم الفعل النقديّ بما يجعل منه ممارسة منعزلة عن الحياة ذاتها، كأنّ هؤلاء النقاد يقولون: “إنهم لو كُتب عليهم الاختيار لاختاروا الفن وفضَّلوه على الحياة في كل حالة”.
العلاقة بين النص والقارئ
لقد نتج عن هذا الفهم أن تحوّلت القراءة وعمليات الفهم من جدل العلاقة بين النص والواقع والثقافة والتاريخ، إلى علاقة خاصة وغامضة بين النص والقارئ، وفي هذا السِّياق نمت مؤسسة القُرَّاء وامتاز فيها القارئ العميق عن الساذج أو السَّطحي، أو القارئ السيد مقابل القارئ العبد إذا استخدمنا مفردات “هوايت” الدرامية، فالقرّاء السّادة نرجسيون، لديهم سلطة على النص وقدرة على تضخيم أسراره، أمّا العبيد، فلا سلطة لهم على النص، “ولا غرو إذن أن يدور جانب من النقد المعاصر حول الجهود المبذولة، لوضع المعايير اللازمة للبتّ في تقنيات القارئ المتميز وسلطته”.
لا يمكننا فهم هذا التّحوّل في دور القارئ بمعزلٍ عن السياق التاريخيّ والاجتماعيّ الذي انبثقت منه هذه الأفكار، إذ يرتبط هذا التحول مباشرة بتراجع مفهوم الحقيقة (reality) في المجتمع الصناعيّ، فقد غاب المركز والمعنى، وأصحبنا إزاء حالة سائلة، وأنتَ تدرك بالتأكيد أنّ النشاط النقدي بطبيعته جزءٌ من كلٍ أكبر منه داخل هذا المجتمع، بما يعني أنه يتأثر بغيره من الأنشطة الأخرى، وهكذا فقدت القراءة صفاءها القديم، وغدت ممارسة إشكاليّة، لا يدركها إلا الصفوة من القُرّاء.
يتبع…
مقالات ذات صلة:
النقد الفلسفي بين تشكيل الذات وتأزم الواقع
* تنويه: الأفكار المذكورة في المقال لا تعبر بالضرورة عن رأي الموقع.
_________________________________
لمتابعة قناة اليوتيوب لأكاديمية بالعقل نبدأ، اضغط هنا
لقراءة المزيد من المقالات، اضغط هنا