فن وأدب - مقالاتمقالات

النفي والحنين الى الوطن

العظمة مبتجيش بسهولة، ومحدش جه عشان ينشر حاجة جديدة أو فن جديد أو فكرة جديدة أو ثورة إلا وشاف في حياته الويل، كرهوه الناس، قالوا عليه جاهل، عبيط، مغرور، تافة لحد ما قدر في الآخر إنه يوصل المعلومة ولو بموته واستشهاده، وهنا في السلسلة دي هنشوف إزاي أشهر ناس في التاريخ وصلت لمكانة إنهم ينشروا فكرهم وإزاي جاهدوا في السبيل دا، وإيه اللي شافوه من مآسي ومحن عشان ينتصروا في النهاية، وإن طريق النجاح أبدًا مكنش سهل.

الشعر الشعبي، أو لسان حال الشعوب خصوصًا في الاستعمار بيكون أصدق أنواع الشعر وأكثرهم معاني وعبر، وأكثر الأنواع اللي بتشدني أنا صراحة خصوصًا لو كانت القصيدة وراها قصة.

من هو محمد بلخير الأغواطي

تعالوا نبص بصة كدا على تاريخ مهم جدًا في العالم العربي:

سنة ١٨٣٢ ومع دخول فرنسا للجزائر، اتولد الشاعر الشيخ وأول شخصية النهاردا “محمد بلخير الأغواطي” اللي هيكون علامة فارقة في تاريخ شمال إفريقيا بعد كدا، واللسان الناطق ضد الاستعمار الفرنسي.

عاش محمد بلخير في الشمال حياة بداوة وترحال، وكانت منطقة الوادي المالح والزريقات هناك مشهورة بالخيل البيضاء وكانوا بيسموها “الرحل البيضا” اللي هيا الحصنة البيضا، محمد كان شاعر متفائل منفتح على الحياة وبيتغزل في جمال الطبيعة، والحياة كانت جميلة في طفولته وشبابه، بس نزعته العربية والكرامة قادوه لكراهية المستعمر الفرنسي المغرور اللي كان مسيطر على كل حاجة.

اضغط على الاعلان لو أعجبك

المهم، لما كبر شوية، تحديدًا سنة ١٨٦٤م حصل حاجة مهمة جدًا في الشمال الإفريقي، أعلن كل من الشيخ بن الطيب، وبعده سيدي سليمان بن حمزة، وأخيرًا سيدي بوعمامة الجهاد ضد الفرنسيين.

ثورة أولاد سيدي الشيخ

أعلنوا راية الجهاد والمقاومة وانضم ليهم غالبًا القبائل في الجزائر كلها، وبدأت أكبر ثورة في تاريخ الجزائر وهي ثورة “أولاد سيدي الشيخ ” اللي استمرت أكتر من عشرين سنة ما بين انتصار وهزيمة ومعارك، زي ثورة ابن حطب ضد فيلق مارتينو ودينيه اللي اتقتل فيها آلاف من الجانبين.

اجتمعت القبائل كلها على إيد راجل واحد فجأة كدا ضد الوجود الفرنسي، بدأت بهجوم على مخيم فرنسي في البداية، وبعد ما الفرنسيين ردوا الضربة ضربتين استمرت الثورة من قمع وهروب وضرب وحرب شوارع واعتصامات، لدرجة كسرت أنف فرنسا لفترة كبيرة من الزمن في المقابل عانى الشعب الجزائري الحصار وأمراض وأوبئة ومجاعات وجفاف، ومع ذلك مخافوش واستمروا في المقاومة.

المهم، النزعة الثورية جوة الشاعر الفارس محمد بلخير قادته من أول يوم ثورة إنه أعلن فيه الجهاد للانضمام والمشاركة مع المجاهدين، لكنه شارك بلسان حال الثورة وجهازها الإعلامي مش مقاتل.

كان شاعر الثورة وملهب أحاسيس الثوار، دوره كان بيطلع يقول الشعر ليذكرهم أمجادهم السابقة ويمدح في الرسول والمقاومة، كان دوره مهم جدًا لأنه كان بيحركهم فعليًا، كان بيمثل خطر على الوجود الفرنسي في شمال إفريقيا، خصوصًا إن أشعاره كانت بدأت في الانتشار وكان كل يوم بينضم شباب للمقاومة بسببه، كان بيكتب الشعر ويلقيه عن بطولات الثوار ضد الفرنسيين وانتصاراتهم وتشجيع الانضمام ليهم وكان بينجح، واسمه كان بيتردد كل يوم بين الناس لدرجة خوفت فرنسا ساعتها.

معاهدة بين المغرب وفرنسا

طيب، بعد الثورة الثالثة بقيادة سيدي الشيخ بو عمامة واللي شارك فيها محمد بلخير بشعره، حصلت هدنة، وتحت الضغط الفرنسي عُقِدت معاهدة اسمها “صلِّ بريزينة” في ٢٠ مايو ١٨٨٣ بين زعماء الثوار والسلطات الفرنسية لإنهاء القتال بين الطرفين وبعد ما الطرفين تعبوا من المقاومة، وبعد التوقيع اللي كان مشروط، اعترض محمد بلخير على ضياع المجهود دا كله على المعاهدة دي، وقرر الانسحاب من السلام الزائف دا كله واللي عكس حماسه الثوري، وحس بريحة الخيانة بعد ٢٠ سنة مقاومة، وقرر إنه يسافر للجنوب ويحاول يلهب المشاعر تاني ويجدد الثورة ويجمع فلوس وسلاح.

سافر فعلًا وبدأ يخطب في الناس اللي كانت عارفاه إنه شاعر للمقاومة، ويخش قبيلة قبيلة يحاول يحمسها، لكنه فشل للاسف، العدد مكنش كافي والناس استوحشت العنف والدم والمقاومة وتعبت فعلًا، عايزين يستريحوا شوية دول ٢٠ سنة، وفي الوقت نفسه فرنسا كانت سامعة عن الشاعر دا ودوره في العصيان الجزائري، وكانت مستنية الفرصة اللي هيغلط فيها عشان تقبض عليه.

رجع محمد بلخير إيد ورا وإيد قدام، رجع متخفي عن أنظار الكل خصوصًا الفرنسيين اللي كانوا بدأوا يخلصوا من الثوار ويبعدوهم ويشتتوهم بعد المعاهدة، كان مر على آخر ثورة ٥ سنين، فيها رجع الخنوع من تاني تدريجيًا، ورجعوا مستعمرين من تاني تحت الفرنسيين ينهبوهم زي ما هما عايزين.

وعشان كدا فضل الشاعر إنه يتوارى ويختفي عن الكل، ويحاول يعيش في سلام مع نفسه في بلده اللي بيحبها بروح الطفل وروح الفنان جواه، وحاول فعلًا إنه يعيش لوحده بعيد عن الحرب والدم والقتل ودا كله.

اعتقال ونفي الشاعر محمد بلخير الأغواطي

لكن للاسف مفيش حاجة بتفضل مستخبية، وفي الآخر وبوشاية بعض الجواسيس التابعين للفرنسيين، رصدوا مكانه كونه من أهم الثوار في تاريخ ثورة أولاد الشيخ، واعتقله الفرنسيين سنة ١٨٨٦، واتحكم عليه سنة ١٨٨٧ بقرار حكومي بالنفي لمدينة كالفي بجزيرة كورسيكا، حاجة كدا منعزلة في آخر الدنيا بعيد عن أهله وصحابه بتهمة “العصيان” والتحريض على الثورة ضد الوجود الفرنسي في المنطقة، واتنفى محمد بالخير بعيد جدًا، أبعد ما يكون عن الجزائر وعن فرنسا.

رحل البيضاء للشاعر محمد بلخير الأغواطي

في منفاه وسجنه، كتب واحدة من أشهر قصائده اللي بتمثل المعاناة للمغترب عن أهله وبيته ومنطقته، واللي بيغنيها غالبية المغتربين من الشمال الإفريقي لما بيحنوا لبلادهم، هي قصيدة شعبية بدوية فمعلش هيا صعبة شوية بس حاولوا تحسوا معناها، القصيدة بتقول:

رحل البيضَا لله حرمتك عارَك لا تنساني

جبنا لِيك الصّلاح وين طافو في كل ابلاد

سرحني يا سيدي بجاه لعرج مولى بغداد

سرحني يا سيدي نشوف وطنك وأوطاني

وانسال على لحباب كان ما زالو جارك عاد

أنا كنت مهني منين درت قبابك جيراني

ونبقى فايز بشبوب حرمتك وافضايل لولاد

يا سيدي عار الله لا تفوت عليا تنساني

ياك إحنا متفقين في المحبة نية وجهـاد

يا سيدي عار الله لا تحشمني قدام أقراني

أنت ضامن عزي وحرمتي ومراكب لعياد

يعني بيقولها يا أيها الخيل الأبيض حلفتك بالله ما تنساني، بيناجي الخيل الأبيض اللي مشهورة بيه بلاده إنها تفتكره، بيقول ” سيبني يا سيدي، أطلق سراحي يا سيدي عشان أشوف وطني وبلادي، ونسأل عالأحباب لو لسه موجودين ولا لأ، بيقول يا سيدي متنسانيش، إحنا اتفقنا على نية الجهاد “.

القصيدة بقت قصيدة شعبية في الشمال الإفريقي بعدها وعلى لسان الكل، الشاب مامي أخدها بعد كدا ولحنها على لحنها القديم وغناها لو حابين تسمعوا أغنية من التراث الشعبي العالمي.

وفاة الشاعر محمد بلخير الأغواطي

رجع بعدها محمد بلخير بعد ما أطلقوا سراحه سنة ١٨٩٥ بعد ما مرض وتدهورت حالته، ليموت بعد كام شهر في بلاده في حالة من الصمت وبعد ما بطل شعر بناء على تعليمات فرنسية نهائيًا ويسكت لسانه، مات في اكتئاب وصمت، وسط الرحل البيضا اللي استوحشها قبل ما يشوف استقلال بلاده بعينه.

حنين الشاعر لوطنه بعد النفي، خصوصًا إنه جاهد لمدة ٢٠ سنة بيحارب ضد الفرنسيين، مرة بالسيف، ومرة بالشعر.

كان دور بلخير مهم جدًا وحاسم ضد القوات الفرنسية أهم من الجندي المقاتل، فنى حياته عشان يشوف أرضه مستقلة، وللأسف كلّفه دا البعد عن الأحباب والصحاب والبيت ودفا الحي اللي اترعرع فيه، اتنفى بعيد عن بلده، بكى مع الكلمات اللي أنشدها في قصايده، سنين حاول فيها التماس العذر والرجوع من غير فايدة، كأن قلبه انخلع من جواه، وكان النفي هو المحنة اللي سببتله اكتئاب وخلته يبطل يقول شعر لحد ما مات بعدها بشهور بس، وهو شايف بلده بتندثر تحت الثقافة الفرنسية، ومات بحسرته.

وشكرًا.

مقالات ذات صلة:

شيخ العرب همام ومشروع استقلال منسي

الإنسانية تقتضي المقاومة

جدل المكان والتاريخ

* تنويه: الأفكار المذكورة في المقال لا تعبر بالضرورة عن رأي الموقع.

_________________________________

لمتابعة قناة اليوتيوب لأكاديمية بالعقل نبدأ، اضغط هنا

لقراءة المزيد من المقالات، اضغط هنا

محمد أمير

كاتب ومؤرخ وصانع محتوى