مقالات

أندلسيات .. الجزء الرابع

“المستعرب”، بفتح الرّاء، هو المسيحي الذي يقيم في مملكة إسلامية في الأندلس، و”المدجّن” هو المسلم الذي يقيم في مملكة مسيحية،

وقد أدّى المستعربون والمدجنون دورا عظيما في تشييد حضارة الأندلس، فمن خلالهم كان يتم التبادل الثقافي بين عنصري شبه جزيرة إيبريا.

ولعل السؤال الذي قد يتبادر إلى الذهن هو: ما الذي يحمل مسلما على أن يقيم في بلد يحكمه مسيحيون؟

المستعربون في الأندلس

عندما كان المسيحيون يغزون مملكة مسلمة، كان أمام المسلم المهزوم خياران: الخيار الأول هو النزوح إلى مملكة إسلامية أخرى، خالي الوفاض، لأن ثروته عبارة عن أرض زراعية لن يحملها فوق رأسه بطبيعة الحال. الخيار الثاني كان البقاء والعيش تحت الحكم الجديد.

في الوقت نفسه كان الملوك المسيحيون الذين يغزون مملكة مسلمة يفكرون في طريقة تجعل المسلم يظل مقيما في المملكة بعد أن تنتقل السلطة إليهم. كان المسيحيون يعلمون أن المسلم قد يتخلى عن ماله، لكنه لا يتخلى عن دينه.

اضغط على الاعلان لو أعجبك

لذلك وضعوا مجموعة قوانين يستطيع المسلم بمقتضاها أن يمارس شعائر الإسلام إن هو أقام في المملكة التي يحكمونها. تبيح القوانين للمسلم كذلك أن يخضع لأحكام الشريعة الإسلامية في أمور الزواج والطلاق والميراث. كل هذه القوانين تنظمها لائحة تسمى “لائحة المدجنين”.

لائحة المدجنين

محاكم التفتيش في الأندلسالسؤال الثاني الذي يبدو منطقيا هو: ما الذي يدفع المسيحيين المنتصرين إلى تطبيق “لائحة المدجنين” على المسلم المهزوم؟

الإجابة تتلخص في أن المسيحيين كانوا يريدون التفرغ للحرب، فإذا ظل المسلم مقيما في المملكة فإنه سيزرع الأرض، وبالتالي فلن يحتاج المسيحيون إلى تخصيص عدد من الجنود لفلاحة الأرض.

لائحة المدجنين إذن هي اتفاق تبادل منفعة بين طرفين: المسلم المهزوم يحتفظ بأرضه ويمارس شعائر الإسلام في مقابل دفع ضريبة للملك المسيحي، والمسيحيون المنتصرون يضمنون بمقتضى اللائحة الحصول على إمدادات القمح والغذاء، وبهذا يستطيعون التفرغ للقتال لغزو ممالك إسلامية أخرى.

لاحظ أن اللائحة تفيد الطرفين، لكنها تأتي على حساب الممالك الإسلامية الأخرى. لذلك فإن الونشريسي كان يرى أن المسلم المهزوم يجب أن يغادر المملكة على الفور (أسنى المتاجر في بيان أحكام من غلب النصارى على وطنه ولم يهاجر). هذه المقدمة أراها ضرورية للبدء في دراسة القضية الموريسكية.

اقرأ أيضاً:

الجزء الأول من المقال

الجزء الثاني من المقال

الجزء الثالث من المقال

معاهدة تسليم غرناطة

وقّع أبو عبد الله الصغير اتفاقية تسليم غرناطة في نوفمبر عام 1491، وفي الثاني من يناير من عام 1492 (“لتاريخ الروم، ذمّهم الله تعالى”، كما تقول المخطوطات الموريسكية عادة) دخلت الاتفاقية حيز التنفيذ، وأصبح مسلمو غرناطة من رعايا الملك فيرناندو.

اعتبارا من ذلك التاريخ أصبح المسلمون خاضعين للائحة التي أشرنا إليها؛ “لائحة المدجنين”. كان من حق المسلم أن يصلي ويصوم ويتزوج ويبيع ويشتري وفقا لأحكام الشريعة الإسلامية. استمر الوضع على ذلك الحال حتى عام 1502.

هذا معناه أن مسلمي غرناطة ظلوا عشر سنوات كاملة يؤدون شعائر الإسلام دون أن تتعرض لهم محكمة التفتيش.

في تلك الفترة كان المسيحيون في أوج قوتهم واعتزازهم بعقيدتهم الكاثوليكية (لاحظ أنه في ذلك العام وصل كولون إلى أمريكا التي أصبحت كلها تقريبا تحت السيادة الإسبانية).

محاكم التفتيش في الأندلس

محاكم التفتيش في الأندلسرأى القساوسة آنذاك نشر العقيدة الكاثوليكية في العالم الجديد، وتساءل بعضهم عما إذا كان من الأولى تنصير المسلمين المقيمين في إسبانيا. كانوا يرغبون في ذلك، لكن اتفاقية تسليم غرناطة كانت تمنعهم.

حاول الأسقف تالابيرا الدخول بلطف في هذا الموضوع، وحصل بالفعل على نتائج وإن كانت ضئيلة. ذلك الدخول البطيء في المسيحية لم يعجب الكاردينال ثيسنيروس الذي أقدم على فعلة خرقاء؛ جمع أهالي قرية في مكان عام، وخيّرهم بين قبول التعميد أو حرقهم أحياء، فلم يكن أمام المسلمين إلا قبول التعميد، حفاظا على حياتهم.

كانت فعلة ثيسنيروس تشكل خرقا للقانون، وقد وضعت الدولة الإسبانية في مأزق؛ أحد كبار رجال الدين يخالف القانون وينقض اتفاقية وقّعها ملك البلاد. كان لا بد من إيجاد مخرج، وكان المخرج مرسوما ملكيا  ينص صراحة على حظر ممارسة أي دين غير الدين المسيحي في إسبانيا. حدث ذلك عام 1502، وهو تاريخ تحوّل المدجنين إلى موريسكيين.

* تنويه: الأفكار المذكورة في المقال لا تعبر بالضرورة عن رأي الموقع.

*****************

لمتابعة قناة اليوتيوب لأكاديمية بالعقل نبدأ، اضغط هنا

لقراءة المزيد من المقالات، اضغط هنا

أ.د./ جمال عبد الرحمن

أستاذ اللغة الإسبانية، كلية الآداب والترجمة جامعة الأزهر