مقالات

مجتمع فى مهب الريح

“أترى أننا خالفنا عليًا لفضل منا عليه؟ .. لا والله، إن هي إلا الدنيا نتكالب عليها، وأيّم الله لتقطعن لي قطعة من دنياك وإلا نابذتك ” هكذا قال عمرو بن العاص لمعاوية بن أبي سفيان حين انضم لصفه في النزاع بينه وبين علي بن أبي طالب(كرم الله وجهه)، حيث اشترط عمرو بن العاص لقاء ذلك أن يولَى مصر طول عمره، حيث أنه كان واليًا عليها ثم عزله عثمان بن عفان. ذلك الأعتراف الصريح من عمرو بن العاص جدير بالملاحظة، فقد أعلن بوضوح شديد أنه بوقوفه في صف معاوية لا يرجو سوى الدنيا، ولم يلجأ عمرو بن العاص إلى لي عنق الحقائق لتوافق موقفه، أو لسوق الحجج التي ظاهرها الرحمة وباطنها العذاب لتبرير ذلك، أو لاجتزاء نصوص دينية وفصلها عن سياقها لتناسب حالته، بل وضح مسعاه الحقيقي بصدق مع نفسه أولًا من شأنه أن يحفظ ثبات المعايير وإن أخطأ ابن العاص. على العكس من ذلك تمامًا تلك الحالة من الميوعة المعيارية التي أسس لها دعاة عصرنا، فتراهم يتفننون في تأويل النصوص، وتزييف الحقائق، والإتيان بحجج ما أنزل الله بها من سلطان، حتى ضاع الحق في ذلك التيار الهائل من الأباطيل ، وسيطر لون النسبية الرمادي بقوة، واختلط على الناس أمورهم بين الضرورات المرحلية الباطلة، والغايات التي تبرر الوسائل، وضيق ذات اليد وعدم توفر إمكانات السلوك القويم، وغياب البدائل . فتطبييع العلاقات مع إسرائيل ليس ضرورة مرحلية، ولكنه خيانة واضحة للقضية، وارتماء في أحضان عدو متربص لتحقيق مكاسب مادية، والمشاركة في المنظمات المعروف دور إسرائيل فيها ليس لعدم توفر بديل لها، ولكنه اعتراف بإسرائيل وجبن عن مواجهة عكس ذلك، ودعم الجماعة الإسلامية بلبنان لسمير جعجع رغم ماضيه الموالي لإسرائيل ليس بحثًا عن دولة المؤسسات فغاية كهذه لا تبرر أبدًا وسيلة خسيسة كتلك. والاستمرار في قبول المعونة الأمريكية ليس لضيق ذات اليد، بل هو انبطاح وقبول بكتالوج أمريكي محكم للبلد، وبنظام يؤسس لسيطرة رجال الأعمال على مقدرات شعب، وقبول اتفاقيات تلزمنا بالوقوف في صف إسرائيل وعدم التعاون مع أي كيان يهدد أمنها ليس حنكة سياسية بل عار وذل. تلك الحالة من ميوعة المعايير مسيطرة بشكل كبير حتى على أدق تفاصيل حياتنا، فالتعامل غير الآدمي-أحيانًا كثيرة- الذي يلقاه مريض في مستشفى جامعي حين يتم استخدامه كوسيلة شرح دون أدنى احترام لمرضه وعدم قدرته على تحمل ذلك ليس لعدم توفر بدائل عن ذلك، وإنما لسيطرة المادية حتى كدنا ننسى أنه إنسان كرمه الله، ولغياب قيم احترام الإنسان، ورحمة الضعيف والعطف عليه. وكذلك اللجوء لوسائل مثل “التربيط” وشراء الأصوات في انتخابات ما وتبرير ذلك برغبة سامية من وراء خوض تلك الانتخابات إن هو إلا محض كذب على الذات أولًا، ثم على المجتمع، وافتراء على الحق الواضح المطلق. إن تسمية الأشياء بمسمياتها مثلما فعل ابن العاص، حينما وصف موقفه بأنه تكالب على الدنيا من شأنه أن يحفظ للمعايير ثباتها، وللمجتمع أساسه القيمي، وللحق وضوحه، فالكذب كذب، والخيانة خيانة، والجبن جبن، وإن تمت تغطية كل ذلك بعبارات رنانة، وحجج تنم للوهلة الأولى عن شيء من الصحة، وابتسامات متبادلة على شاشات تليفزيونية، كل ذلك لا يغير من الحق شيئًا، ولا يمسخه باطلًا، إلا أنه يضع المجتمع وأساسه الفكري في مهب الريح .

داليا السيد

طبيبة بشرية

كاتبة حرة

باحثة في مجال التنمية العقلية والاستغراب بمركز بالعقل نبدأ للدراسات والأبحاث

حاصلة على دورة في الفلسفة من جامعة إدنبرة البريطانية

مقالات ذات صلة