ما هي الثقافة؟ وما عناصرها؟
كثيرا ما يرغب الأشخاص وخاصة أولئك الذين يظهرون على شاشة التلفاز في أن يوصفوا بأنهم مثقفون، وقد يشفعون ذلك بأنهم يحبون القراءة ويذكرون أسماء بعض الكتب والمؤلفين، ثم مع ملاحظة ما يبدونه من آراء حول الحياة والأفكار والقضايا إلخ نتساءل هل هؤلاء مثقفون؟ الأمر الذي يجعل التفكير في معنى الثقافة، وعناصرها أمرا ضروريا.
ما هي الثقافة؟
الثقافة في اللغة العربية مأخوذة من المادة اللغوية (ث ق ف) وفي المعجم الوسيط: “ثَقِفَ: ثَقَفًا صار حاذقا فطنا، فهو ثَقِفٌ، وثَقِفَ الشيءَ ظَفِرَ به. وثّقَّفَ الشيءَ: أقام المعوج منه وسوَّاه.” المعجم الوسيط ص 98.
فالثقافة في اللغة تعني الحِذْقَ والمهارةَ والتقويمَ والإصلاحَ. لكن ما معناها حين نقول مثلا: فلان مثقف؟ وهل الثقافة معرفة وقراءة؟ إذا كانت كذلك فعن ماذا يقرأ المثقف؟
الثقافة من وجهة نظري تنقسم إلى دائرتين، دائرة أصلية ودائرة غير محدودة، وهي مرتبطة بالتعلُّم، ولذا تحتاج إلى القراءة والمعرفة كشرط لوجودها والاتصاف بها. ولكن ما هي العلوم والمعارف التي تتشكل منها ثقافة الفرد الذي يوصف بالمثقف؟
الدائرة الأصلية
هناك عناصر معرفية رئيسة لا بد من توفرها من وجهة نظري في الشخص المثقف، وهي الدائرة الأصلية، وهي:
اللغة وآدابها:
لا بد من أن يتقن المثقف لغة بلاده، فإتقان اللغة شرط ضروري للثقافة، ولا أقصد من الإتقان الوقوف على المعلومات المجردة التي يدرسها في المرحلة الثانوية فقط، بل لا بد من الاستزادة من معلومات اللغة بما يشمل قواعد العربية النحوية والصرفية والبلاغية، ويجب أن يضاف إلى ذلك الانخراط الواسع في قراءة آداب اللغة العربية شعرا ونثرا ورواية وكل أشكال الإبداع اللغوي،
فبغير الوقوف على قدر جيد وقوي من القواعد اللغوية وبغير قدرة واستطاعة على تذوق آداب اللغة التي ينتمي إليها المثقف كيف يمكن لشخص كهذا أن يدرك ما يقرأ بوضوح أو ينتج ويبدع بلغة ما؟ ومن ثم تكمن أهمية إتقان اللغة، ويندى الجبين لأولئك المحسوبين على الثقافة العربية الذين يظهرون في الإعلام ويمطروننا بألفاظ غير عربية، بل حين يعجزون عن صياغة جملة تعبر عن رأيهم يلجؤون إلى لغة أجنبية، كيف يمكن أن يكون هؤلاء مثقفين عربا أو مصريين؟
الفلسفة والمنطق والدين:
الفلسفة عموما تهتم بدراسة مشكلة المعرفة والوجود وما وراء الطبيعة، وهي تراث إنساني حافل بالإجابات على أسئلة الإنسان المفكِّر، والمنطق أداة التفكير الصحيح كما أنه يشمل مناهج البحث العلمية المتنوعة، وكذا الدين هو أن ينتمي الإنسان لدين معين، وغالبا ما يكون له وجهة نظر دينية في شتى شؤون الحياة،
وحسبما يرى الشيخ محمد عبد الله دراز: “فمطلب الفلسفة هو معرفة أصل الوجود وغايته، ومعرفة سبيل السعادة الإنسانية في العاجل والآجل، هذان هما موضوعا الفلسفة بقسميها العلمي والعملي، وهما كذلك موضوعا الدين بمعناه الشامل للأصول والفروع.” الدين ص 60.
وعجيب أن تجد شخصا ينتسب لدين كالإسلام مثلا _الدين الذي أدين به_ لا يعرف شيئا أو يعرف القليل جدا وربما يعرف معرفة مغلوطة بالدين ثم ينصِّب نفسه مثقفا لمناقشة الدين وعلمائه، بل الأدهى محاكمة الدين وعلمائه، والعكس صحيح تجد رجل دين ليس لديه معرفة واعية بالفلسفات المتنوعة التي أنشأت الاتجاهات السياسية والاقتصادية والاجتماعية المختلفة،
ثم تراه يُدِينُ هذه الأفكار دون وعي تام وإدراك لظرفها التاريخي والمعرفة الصحيحة بها، ولك بعد ذلك أن تتخيل مقدار بعدنا عن المعرفة الصحيحة الموصلة للحقائق والحال هكذا، عموما لا بد للمثقف أن يكون على دراية حقيقية وصادقة بالفكر والفلسفة والمنطق والدين.
التاريخ:
التاريخ هو نافذةُ الحاضر على أحداث الماضي بكل دروسه وعِبَرِه، وبغضِّ النظر عن كيفية صياغته ومصداقية الحوادث أو أي إشكالية أخرى قد تثار حول التاريخ إلا أن أي مثقف يجب أن يكون على وعي بتاريخ بلده وأمته، فالمثقف المصري يجب أن يُلِمَّ بتاريخ مصر وأمته العربية وأمته الإسلامية على قدر الإمكان.
الدائرة غير المحدودة
أظن أن هذه العناصر الرئيسة أو الدائرة الأصلية للثقافة ولتشكيل المعرفة لدى المثقفين، وهناك دائرة غير محدودة ويمكن أن نضم تحتها:
علم الاجتماع والنفس:
دراسة المجتمعات وطبيعتها، وخصائص الاجتماع البشري، وقضايا مراحل حياة الإنسان منذ الطفولة إلى المراهقة والبلوغ والنضوج إلخ، وما أبدعه العلماء في هذا المجال، أصبح من ضروريات المعرفة في عصرنا الحالي، كما أن النفس الإنسانية دراستها ودراسة سلوكها تضيف للمثقف الكثير.
علوم الطبيعة وشؤون الحياة:
ما مرَّ من علوم هي العلوم النظرية أو الإنسانية، ولكن اليوم هناك قدر من المعرفة الطبيعية التي قد يحصِّلها بعض المثقفين وتُعلي من شأنهم، منها معرفة طبية وكونية وفلكية وجغرافية وهندسية إلخ، بما يشمل العلوم التطبيقية جميعا، وتشهد الأعمال الأدبية والفنية الخيالية والمستقبلية على أهمية الوعي بالثقافة العلمية،
يقول جيمس تريفل عن أهمية الثقافة العلمية: “جوهر القضية أن كثيرا من القضايا التي تعترض الناس في حياتهم بوصفهم مواطنين سوف تتضمن العلم، ولهذا فإن معرفتهم بالمبادئ الأساسية للعلم تمثل مجرد جزء ممّا هم في حاجة إلى الإلمام به، حتى يتسنى لهم إصدار أحكام معقولة عن القضايا الراهنة، مثل احترار الكوكب أو آخر التحذيرات بشأن المواد المسرطنة في الطعام.” لماذ العلم؟ ص 31 بتصرف.
معارف أخرى:
البعض يعرِّفُ الثقافة بأنها كل معارف المجتمع من علوم وعادات وتقاليد وأكلات وملابس وطرق معيشية وطبائع وفنون إلخ، “وفي أدبيات منظمة الأمم المتحدة للتربية والعلوم والثقافة (اليونسكو) يشير مصطلح الثقافة إلى معنيين، الأول: معنى أكثر خصوصية وتحديدا، فهي كل ما يميز شعبا من الشعوب عن غيره. والثاني: أكثر عمومية وشمولا إذ يعني كل ما يميز الإنسان عن غيره من المخلوقات ويجعله إنسانا.” ينظر الثقافة والحضارة ص 52 فؤاد السعيد، وفوزي خليل.
فكل ذلك يدخل في دائرة الثقافة التي لا حدود لها، وبناء على ما سبق يمكن الإشارة إلى أن المثقفين منهم مثقفون محليون يتثقفون بثقافة بلادهم فقط، ومنهم مثقفون عالميون وهم من تتسع ثقافتهم لمعرفة ثقافات الشعوب الأخرى وأهم الثقافات والحضارات في العالم.
وهنا نجيب عن السؤال الثاني: ما هي عناصر الثقافة؟
عناصر الثقافة أو العناصر التي تكوّن ثقافة شخص أو تسمح لنا بأن نصفه بأنه مثقف تتكون من عنصرين:
الأول: العنصر المعرفي:
وهو ما يتضمن العلوم والمعارف التي تحدثت عنها سابقا، وهي المادة الخام للمعرفة وهي الأساس، وبقدر ما يحصّل منها المثقف بوعي وفهم وإدراك بقدر ما يكون لديه مادة خام قادر على إعادة إنتاجها أو صياغتها لتثقيف الآخرين، أو تكون مخزونه الذاتي الذي يساعده في الإبداع وحل المشكلات.
الثاني: العنصر الذاتي:
وهي القدرات الفردية بما يشمل الذكاء وقوة العقل والقوة النفسية للفرد وما يتمتع به ذاتيا من صفات يكتسبها على مدار حياته، وهذا العنصر الذاتي يتفاضل فيه الناس، وهو عنصر مهم، لأن عناصر الذات هذه هي التي يستخدمها المثقف في تصنيع المادة الخام المعرفية.
إذا بان لنا ما سبق فهل يمكن أن يصبح الشخص مثقفا من مجرد قراءة بعض الكتب؟ وكم من الوقت يحتاجه لتحصيل الثقافة؟ فالثقافة عمل جاد شاق تحتاج لعزيمة وإرادة حتى يصل الفرد إليها، حتى يوصف بأنه مثقف.
بين الثقافة والعلم:
المثقف أشبه بشخص يعرف أشياء كثيرة عن كل شيء في الحياة، لكنه ليس عالما متخصصا في مجال ما إلا لو جمع بين التخصص العلمي في مجال ما وبين الثقافة، وبناء على ذلك يستطيع المثقف أن يفهم عن العلماء لكن يجب أن يحترم أن العلم والقضايا العلمية الدقيقة تحتاج لمتخصصين سواء في العلوم التطبيقية أم الإنسانية حتى لا يكون تحقيق وصف الثقافة سيفا مُشهرًا في وجه العلم والعلماء غير مدرك لأهمية التخصص.
وبناء عليه أيضا قد يكون العالم مجرد عالم متخصص في مجال ما ومع ذلك قد لا يكون مثقفا إلا إذا حقق شروط الثقافة.
وأخيرا عما يقرأ المثقف، وعما أقرأ؟
مما سبق تتضح اهتمامات المثقف التي تبني ثقافته، أما سؤال ماذا أقرأ؟ فهو سؤال محيِّر حين نفكر فيه، سواء انطلقنا منه لمجرد المعرفة أم للإجابة على تساؤلاتنا، وحتى لتحصيل بعض المعرفة الثقافية.
وحين أبحث عن إجابة لهذا السؤال، الذي قد يدور بذهن كثير من الشباب، فأظن أننا يجب أن نبدأ في التفكير في سؤال: من أنا؟ أنا المصري، العربي، المسلم؟ ثم من هم؟ ولن تعرف هم قبل معرفة أنا، فابدأ بـأنا.
ابدأ بمعرفة لغتك، ودينك، وتاريخ وطنك، ابدأ بمعرفة مجتمعك، قبل أن تبحث عن المعرفة خارج نطاقك الذي تعيش فيه، ثم تعرَّف على ما شئت بعده.
اقرأ أيضاً:
الثقافة وبناء شخصية الفرد والمجتمع
* تنويه: الأفكار المذكورة في المقال لا تعبر بالضرورة عن رأي الموقع.
*****************
لمتابعة قناة اليوتيوب لأكاديمية بالعقل نبدأ، اضغط هنا
لقراءة المزيد من المقالات، اضغط هنا