مقالات

“الأنثروبومورفيزم”.. التأنيس في حياتنا اليومية

يستخدم الأدباء والمفكرون كلمات قريبة المعنى شبيهة الدلالة للتعبير عن نقل الصفات البشرية للحيوانية أو غيرها. وهذه الكلمات هي: المغالطة الوجدانية، والإنطاق، والتجسيد، والتجسيم.

ما هو الأنثروبومورفيزم؟

يُعد النقد الأدبي من أكثر الكتابات الأدبية التي تميل إلى هذه الاستخدامات، لكن إزاء هذه الربكة التوظيفية للمصطلحات والكلمات، رأى مجمع اللغة العربية في القاهرة، أن أنسب الكلمات للدلالة على معنى إنزال غير العاقل منزلة العاقل “التشخيص” و”الأنسنة” و”التأنيس”. وفي حيثيات رؤية المجمع أن “التشخيص” وإن كانت مشتركة في دلالات أخرى، مثل التمثيل وتحديد المرض وتشخيصه، وفيما يخص الأنسنة أنها وإن كانت اشتقاقًا من كلمة الإنسان على لفظها، وأما التأنيس فهي اشتقاق من أصل مادة الإنسان وهو الأنس، فثلاثتها أنسب من الكلمات الأخرى التي ترد في النقد الأدبي الحديث.

هذا شأننا نحن العرب ولغتنا العربية، لكن عند النظر في هذا الأمر في اللغات الأخرى نجد أن الأوروبيين في اللغة الإنجليزية قد ابتكروا مصطلحًا خاصًا بهم؛ “الأنثروبومورفيزم” (Anthropomorphism)، الذي يعني الأنسنة أو التشبه بالإنسان. وظهر هذا المصطلح عام 1700م، ويعني إسناد صفات البشر وخصائصهم إلى الكائنات والأجسام والظواهر الطبيعية. وقد اشتق الإنجليز هذا المصطلح من كلمتين يونانيتين: “إنسان” (anthropos)، و”هيئة أو شكل” (morphe).

خرافات إيسوب .. تعلم من حكمة الحيوان

ما هو الأنثروبومورفيزم

لقد كان كاتب الحكايات والخرافات أيسوب (Aisopos 620-564 ق.م) اليوناني أول من كتب حكايات على ألسنة الحيوانات، مانحًا إياها سمات البشر وصفاتهم، ولجاذبية قصصه صارت دروسًا مفيدة لتربية وتعليم الأطفال بعض الأخلاقيات والممارسات الاجتماعية الناجحة، لقد جعل أيسوب من الحيوانات أبطالًا لقصصه فجذبت الأطفال وتأثروا بها، وهكذا صار له السبق في الاعتماد على الحيوانات في تعليم البشر وتهذيب أخلاقياتهم. وقد سبقه الكاتب الملحمي هوميروس في ملحمتيه الإلياذة والأوديسا، وأتى بتصوير الظواهر الطبيعية والكائنات غير الإنسانية في صورة بشرية هو الآخر.

اضغط على الاعلان لو أعجبك

أتى كثير من الكتاب والأدباء غير اليونانيين قديمًا وحديثًا وصوروا الحيوانات والكائنات في صورة بشرية، وظل النهج على هذا الحال، حتى وصل بنا الأمر وصارت أفلام الكرتون التي تعتمد على تصوير الحيوانات مثل الدببة والفئران والقطط، وحتى الجوامد من الموجودات في بعض الأحيان، مصدرًا لسعادة أطفالنا وشغفهم الآن، وبعض الكبار منا أيضًا.

لقد أرست الحيوانات في أفلام الكرتون في مخيلة أطفالنا أن لديهم قدرة على التفكير، وحُسن استخدام الملعقة والشوكة والسكين في الطعام، بل وارتداء القمصان والفساتين وحُسن ربطها لربطة العنق أيضًا، وكذا انتعالها الأحذية وقيادتها السيارات والطائرات والبواخر، فحياة الحيوانات في هذه الأفلام كحياة البشر تمامًا، ينامون على الأسِرّة ويجلسون على الكنب والكراسي لمشاهدة التليفزيون.

أدوار الحيوانات في الأساطير

إن هذا النهج من التفكير وتصوير الحيوانات في صورة بشرية قديم قِدم الفكر اليوناني القديم، وذلك منذ أن أسند اليونانيون الأقدمون صفات بشرية لآلهتهم فيما ابتكروه من أساطير، وأتوا في تلك الأساطير بالآلهة قبل وجود البشر، ثم أرادت تلك الآلهة إيجاد كائنات ومخلوقات في الكون، فلم تجد أفضل من صفات الآلهة وهيئتها تمنحها للبشر، من ثم فتبعًا لمعتقدهم الديني القديم أتى البشر على شاكلة آلهتهم. لكننا نلاحظ في هذا الفكر تغافل اليونانيين أنهم هم من أوجدوا وابتكروا تلك الآلهة والتي أتوا بها على شاكلتهم ومنحوها صفاتهم.

هكذا فلقد تأثر المحدثون بما ابتكره اليونانيون الأقدمون من تشبيه للحيوانات والموجودات بالإنسان وخلع الصفات البشرية عليها، فنقلوا عنهم وصوروا حياة الحيوانات كحياة البشر تمامًا. وتأثرًا باليونانيين الأقدمين، نجد المحدثين عندما أرادوا تسمية ما يفعلونه وتعريفه من تصوير للحيوانات في صورة البشر، لم يجدوا أمامهم غير الغرف من معين التراث اليوناني القديم، فغرفوا مصطلحين ومزجوا بينهما، الإنسان (anthropos) والهيئة (morphe)، فصار المصطلح “الأنثربومورفيزم” والذي يعني التشبه بالإنسان.

مقالات ذات صلة:

الأضحية في تراث اليونانيين الأقدمين

ميداس واللمسة الذهبية!

خلود جلجامش في عصر العولمة

* تنويه: الأفكار المذكورة في المقال لا تعبر بالضرورة عن رأي الموقع.

_________________________________

لمتابعة قناة اليوتيوب لأكاديمية بالعقل نبدأ، اضغط هنا

لقراءة المزيد من المقالات، اضغط هنا

أ.د صلاح السيد عبد الحي

أستاذ دكتور بقسم الدراسات اليونانية واللاتينية بكلية الاداب جامعة سوهاج. ومدير مركز حضارات البحر المتوسط.