حياة كل منا، صورته عند الآخرين، تأثيره في الوجود، هو مجموعة من الخيارات. تنبع هذه الخيارات من رؤية الشخص لنفسه ورؤيته للحياة. بعض هذه الخيارات لا يستثمر الواحد منا الكثير من الوقت والمجهود في تحديده، فهو يعتبر موضوعه نسبيا ولا يجد أدنى حرج في تغييره للحصول على نتيجة أفضل، والبعض الآخر من هذه الاختيارات يتعلّق بأمور تمسّ ذات الشخص أو ثوابته، أو رؤيته لما يجب أن يكون، أو ثوابت مجتمعه، وتلك الأمور المتعلّقة بالمبتدأ والمصير لا يتم التعامل مع الخيارات فيها بنفس الأريحية، لا من قبل متّخذ القرار، ولا من قبل محيطيه.
لتحليل هذا الموضوع في الواقع يجب أن نجيب عن سؤالين: هل هناك حقيقة مستقلة في وجودها عن إدراكنا أم لا؟ وما مواقف الناس من الحقيقة، هل يعتقدون أنها نسبية أم ثابتة؟
حتى لا نغرق في التفاصيل سنختصر إجابة السؤالين: هناك حقيقة واحدة مستقلة عن اعترافنا بها، هي تلك التي تؤثر على دوافعنا، والتي تتفاعل المجهودات لتغير بعض أجزائها وتحافظ على الأخرى. هذا التغيّر لا ينافي الثبات؛ حيث إن المقصود مختلف. فالثابت مجرّد مستقل عن الزمن، وبتغيّر الزمن تتغير اللقطة، الصورة الثابتة، مستبدلة بصورة أخرى، تربطها بسابقتها علاقات سببية غير عشوائية.
“إن الموضوع واضح. الفستان أبيض وذهبي. لكن بعض الناس لا يرونه كذلك، لا بدّ وأنهم مصابون بعمى ألوان أو أنّ أعينهم كانت مرهقة عندما نظروا للصورة. وإلا فكيف لأحد أن يخطئ في شيء بهذا الوضوح!!”
موضوع تافه في ظاهره. لكن الكلام حوله يوضح تحديدًا ما نتحدّث عنه. إنّ الموضوع لم يكن ليأخذ هذا الحجم من الانتشار لو لم تكن الإجابة بديهية. لو لم تشعر بأنه لا يوجد سؤال أصلًا ثم تفاجأت بتعدد الإجابات ووجود خلاف حوله لما توقفت عنده لأكثر من ثانية. وهكذا كانت النتيجة المتوقّعة: الفستان أسود وأزرق، لكن الإضاءة أو أيا كان التعديل المدخل من الفوتوشوب جعل الفستان يبدو كما لو كان أبيض اللون ذا حلقات ذهبية.
هنا ابتسم البعض في ارتياح لتأكدهم من سلامة قواهم العقلية وقوى الآخرين أيضًا -في كل الأحوال لا أحد يحب أن يطلب توصيل جهاز أسود اللون لمنزله ثم يجد أن الجهاز أبيض اللون!- واعتبروا أنّ الإجابتين صحيحتان. لكن الإجابتين لسؤالين مختلفين وليستا لسؤال واحد، من رأى الألوان الأصلية غالبا رأى الفستان في إضاءة عادية (في الواقع أو بعكس تعديل الفوتوشوب)، ومن رآه أبيض وذهبيا فقد نظر إلى الصورة المعدّلة وأجاب بمجموع التعديل واللون الأصلي الماثل أمامه. إنّ السؤال غير دقيق من البداية؛ السؤال الصحيح من المفترض أن يكون ما لون الفستان في درجة إضاءة كذا بمعامل تفرقة لونية كذا. والواضح أن من وضع الصورة المعدّلة مخادع استخدم أسلوب الجدل المشهور بطريقة مبتكرة في الإعلان عن منتجه.
إن مواقف الناس من الحقيقة الخارجية تتراوح بين موقف عاطفي متساهل مدفوع بالسأم من الصراع والرغبة في التعايش والتركيز على المشتركات، يساهم في بقائه غياب القدرة على رؤية المعايير الثابتة وبالتالي الثقة، وهو موقف المعتقدين في نسبية الحقيقة أو المتعاملين على هذا الأساس. وهناك نوع من الناس أيضًا يحدد موقفه من الأشياء والأفكار وفقا لهواه أو محددات مصلحته الشخصية، وهذا يدخل أيضا تحت فئة معطّلي الثوابت. وفي مقابل هذا الموقف موقف آخر، هو موقف المعتقدين في وجود حقيقة ثابتة، وصواب وخطأ، وما يجب فعله وما يجب التصدّي له ومنعه.
أصدقائنا أصحاب النسبية (حيث لا حقيقة ولا صواب) يسلموننا إلى الصراع المادي، بعدما أبطلوا إمكانية حكم المنطق على المسائل والإشكالات، هذا الصراع الذي كثيرا ما يكون غير أخلاقي، فحتى معنى الأخلاق يصير نسبيا. إنهم إذ يهربون من صراع يظنون أن مصدره التشبّث بالأفكار فإنهم في الواقع يلغون مساحة التفاهم والسعة الوحيدة، فطبيعة عالم المادة التنازع والتفاوت والمحدودية، على عكس عالم المعاني الذي يزيد فيه المكسب -ولو كان قليلا- بالمشاركة، ويقلّ الضرر الكبير أيضًا بالمشاركة. طبعًا بالإضافة لكل ما سبق فإن صحة الفكرة لا يمكن أن يحددها شخص المنتصر في حلبة مصارعة.
في النوع من الحالات التي لا يقبل فيها الوضع خيارا ما في وجود الآخر، فإنه من الحتمي وجود أمرٍ ما يرجح كفة على حساب الأخرى: دليل. برهان. وفي حالة الأسئلة التي لا تحتمل المخاطرة بالخطأ، وتقع خارج نطاق التجربة، يجب أن يكون لدى الإنسان وسيلة ما للتأكد من صحة ما وصل إليه من تصوّر أيا كانت الوسيلة
هناك العديد من المذاهب الفكرية والديانات التي تدّعي حيازتها للحكمة والبصيرة، وقدرتها على تحديد الطريق الصحيح للوصول للسعادة. وليس من المعقول أن يكون كل فرد مطالبا بالقيام بدراسة شاملة لها جميعا قبل أن يقرر أيها “يبدو” له الأصح، وأنّى يكون له الحكم والترجيح، إن أمكن له القيام بهذا المجهود الضخم؟!
__________________________________________________________
يمكنك أن تكون طيّبا، معطاءً، حسن الخلق، متقنا لعملك، مبدعًا، لكن ليس من المسموح لك أن تكون على الحقّ. الحقّ واحد، وأنا بالتأكيد عليه! أم أنك تقول عني إنّي حمار ضيع عمره في الطريق الخطأ، وضحى مرارا في سبيل الغاية الخطأ؟ أنت بالتأكيد تعيش لحظتك ومصيرك إلى الجحيم. سوف أقابل دعوتك لي لمنهجك بابتسامة متفهّم لشعورك الطيب وأنا أعتذر بلطف، ضاحكا في سري على فعلك الذي يشابه “عزومة” مدخّن شره علي طبيب نشط في حملات التوعية بأضرار التدخين بما يراه سببًا لسعادة وعلامة على الأناقة واللباقة، سيجارة من نوع جيّد! أو يشابه قول الأعرابي البسيط تعبيرًا عن امتنانه لخالقه: لو أنّ لله بعيرًا لرعيته مع بعيري دون أجر!
للحظة تخيّلت أنك تراني بنفس تلك الصورة، لكني سرعان ما صرفت هذه الفكرة عن بالي، فأنت تبدو رجلا طيّبا ليس بمقصدك أن توجّه لي هذه الإهانات البالغة. لطيفة هي تلك المخلوقات التي خلقها الخالق لتخدم الإنسانية وتنشر القيم ثم تذهب متطوّعة إلى الجحيم تاركة لنا المكان الذي نستحقّه لأننا ذوو عقيدة سليمة. إن هذا من عظيم كرم الخالق.
ما دليلي أني على الحقّ؟ لدي الكثير من الأدلة!!
داعية مذهبي إنسان لا يكذب، ويسعى بالخير بين الناس. لقد أخبرني أن هذا هو الحق، وأنا أرى أثر ما يؤمن به في فعله. عليك أن تقابل هذا الرجل، وكل مبشّري مذهبي كذلك، ونحن قوم طيّبون، صدّقني أنت ستجد نفسك متآلفا معنا بسهولة لأن صفاتك تشبه صفاتنا. رسولنا كذلك فعل كذا وكذا، وأمر بكذا وكذا هل ترى عظمة هذا المنهج.
إن مذهبي يدعو لفضائل الأخلاق والأعمال، ويشعرني بالاتصال سر الحياة، و…
ثم إن أتباع مذهبك يشتهرون بصفات وطباع سيّئة، وأكثرهم من أراذل الناس، بينما يتبع مذهبنا من المشاهير والشخصيات المؤثرة فلان وعلّان. ألا تعلم أن مذهبنا يتّبعه ملايين من البشر وهو من المذاهب الأكثر اتّباعا على وجه الأرض!
هل رأيت كتابنا المقدّس، هل طالعت كلماته التي تنبض بالحكمة والهداية والمحبة!! ليس لدي أدنى شكّ في أني على الحقّ. إذا لم يكن هذا طريق الحق فهل هو طريق أصحاب النص القائل بكذا وكذا!
الحقيقة إني لا أدري لماذا قد أحتاج لسرد أي أدلة، فالأمر واضح وضوح الشمس، لا ينكره إلا مكابر!!
__________________________________________________________
في الفقرة السابقة -فقرة “ألف طريقة وطريقة خطأ على الاستدلال”-استخدمت كلمات “خالق”، لأترك للقارئ أن يتخيّل أي اسم معبود شاء، وأي دين أو طائفة من دين شاء، ليضعه مكان الكلمات. خطأ لماذا؟! إجابة هذا السؤال سهلة.
إن الإنسان بطبيعته محب للخير والجمال والغنى عن الحاجة (أو الكمال كما يسميه الفلاسفة). وهو لهذا يحب مصاديق هذه الأمور ويربطها بالأفكار والأيديولوجيات التي تدعو لذلك وتساهم في تحقيقه، وستجد فاعلي خير مخلصين… إلخ من كل المذاهب، وستجد نصوصًا تحمل حكمة عميقة في كل المذاهب، وطرقا عبقرية للتعامل مع مشاكل مجتمعية. إن لم تكن سمعت المقولة “لا يعرف الحقّ بالرجال، وإنما يعرف الرجال بالحق” حتى الآن، فقد آن أوان ذلك.
آه كدت أنسى: لا يمكنك استخدام موضوع الإثبات كدليل صحة على موضوع الإثبات! النص الذي معك يقول إنّ هذا كتاب منزل من عند الخالق؟ هذا الاستدلال شبيه بالاستدلال على أن الشمس غربت لأنك أمرتها بذلك، بإحضار تسجيل فيه أمر منك للشمس بالغروب وقت الغروب.
إن مواضيع “الإثبات” و”الدليل” و”الحكم” مواضيع منطقية بحتة، يحكمها علم المنطق، فور أن يتأكّد مقصود العبارات (مادّتها) من خلال إتقان علوم اللغة. فيا سيّدي الفاضل إن لم تكن لك إجادة في العلوم السابقة فعليك أن تقصد تعلّمها إن أردت الوصول للحقيقة، وإلا فلتدع ذلك العمل لأهله، الموثوق في حكمهم إذا كانوا متجرّدين للحق ومجيدين للعلوم السابقة. وليس أهلا للسؤال والنقاش من ليس على استعداد أن يطرح قناعاته السابقة جانبا ويستنتجها بالدليل اليقيني وأن يراجع نفسه متى وجد ثغرة في منطقه.
إن الطريقة الوحيدة الصحيحة هي استخدام علم المنطق في البداية، فما وراء العقل المستقيم إلا الظن والوهم. سواءً كنت تبحث عن حقيقة ما وراء المادة، أو تبحث عن كيفية الوصول للسلام والنظام الأصلح الذي يليق بأرقى المخلوقات على الأرض. المنطق هو الذي سيحقق ما نصبو إليه. سلامة المنطق وحدها هي ما سيمحو أوهام كون الصراع صفرّيا حيثما يكون غير ذلك، وسيري الفرقاء كم من الممكن أن يكونوا متشابهين حتى في ذروة تباغضهم وتحاربهم. تدريب العقل على تمحيص مسلّماته ومنطلقاته سيقوده لإدراك حقائق واضحة مثل أن هناك ما يكفي لاحتياجات الجميع ويفيض، لكنه من الاستحالة أن يكون هناك ما يكفي أطماع الجميع، أو حتى البعض. ستدرك أيضا أن الصراع ليس مصدره العقل، ولا النص الديني، وإنما الهوى والكبر والأنانية وتقديس العرف وسائر الأخلاق الفاسدة، بجانب نقص العقل نفسه بعدم إجادته لتطبيق قواعد المنطق لأي سبب. فقط بتحطيم الأوهام والأوضاع الفاسدة المبنية عليها ينحسر الصراع.