نقد ما بعد الاستعمار “ما بعد الكولونيالية”
يعد ما بعد الاستعمار (ما بعد الكولونيالية) حركة ثقافية، اجتماعية، سياسية ذات طابع تاريخي – تحليلي، تقاوم وتشتبك مع كل الخطابات الثقافية الكولونيالية وبنيات القوة لديها، وتسعى إلى إبطال ما بلورته الثقافة الغربية في مختلف المجالات، من نتاج يعبر عن توجهات كولونيالية إزاء مناطق العالم الواقعة خارج نطاق الغرب الجغرافي والثقافي والسياسي، المسيطر على السلطة السياسية والاجتماعية ضمن النظام العالمي الجديد.
أهم من نظّر للخطاب ما بعد الكولونيالي هم:
:فرانز فانون
إذ تركزت خطاباته على مناهضة الخطاب الكولونيالي، وهو: الطريقة المحددة للاستغلال الثقافي، الذي تنامى بالتزامن مع التوسع الأوروبي في القرون الأربعة الفائتة. وعلى الرغم من أن عديدًا من الحضارات التي ظهرت من قبل كان لها مستعمرات، وعلى الرغم من أن هذه الحضارات كانت تنظر إلى علاقاتها بتلك المستعمرات بوصفها علاقة قوة عظمى مركزية بالحدود الخارجية لثقافات محلية هامشية وغير متمدنة.
فرانز فانون ركز على مفهومين: مفهوم “العنصرية” وعلاقته بالثقافة السائدة، التي أراد المستعمر أن ينشرها بين أبناء الشعوب المستعمرة، ومفهوم “الاستلاب” وما يسببه من عقدة نقص لدى أبناء القارة السوداء وتأثيره على واقع الشعوب في ذلك الجزء من العالم.
إدوارد سعيد:
مع ظهور كتاب “الاستشراق” الذي عد الأساس في نقد الخطابين الكولونياليين وتفكيكهما، القديم المتمثل بـ”برطانيا وفرنسا” والجديد “الأمريكي”، وبخاصة بعد الحرب العالمية الثانية وتوسعها الإمبريالي في مناطق مختلفة من العالم الثالث، وخصوصًا الشرق الأوسط.
وظف سعيد مفاهيم عديدة في هذا السياق، منها:
– مفاهيم الخطاب والجسد والتمثيل والجغرافيا التخيلية والشرقنة المستمدة من فوكو.
– الهيمنة المستمدة من غرامشي.
غياتري جاكوافورتي سبيفاك:
التي ركزت في دراساتها على عدد من المفاهيم، منها “المهمش”، و”التابع”، و”الآخر”، إذ أسهمت بشكل فعال في تأسيس دراسات “التابع”، التي استمدت مفاهيمها من جاك دريدا.
هومي بابا:
له دور مهم في هذه الدراسات، إذ عد من المؤثرين في هذا الخطاب لكونه سخر للمجال النقدي ما بعد الكولونيالي عددًا من المفاهيم، منها: التنكر والتمويه والبعد الثالث والهوية المحاكاتية والهجين، التي أسهمت في تفكيك الخطاب الاستعماري، وهذه المفاهيم استقاها بعد بحث مستمر في كتابات سعيد، وكذلك في مجالات علم النفس من خلال دراسات فانون وجاك لاكان النفسية.
ما هي جماليات التفكيك في الخطاب الثقافي ما بعد الكولونيالي؟
- رصد الخطاب الكولونيالي بوصفه ظاهرة ثقافية لها تأثيرها في ثقافات العالم الثالث عبر ما يأتي:
- الذات الغربية المؤسسة للخطاب الكولونيالي.
- المواطن الأصلاني وصفاته السلبية في الخطاب الثقافي الكولونيالي.
- الصورة النفسية السلبية للمواطن الأصلاني، وتوظيف التأثيرات الكولونيالية فيها.
- تهديم الصورة الاجتماعية والثقافية الأصلية، وإبعاد المواطن الأصلاني عن الجذور.
- النخبة الثقافية الكولونيالية و”نفي الواقع الأصلي”.
- وضع آليات التفكيك في الخطاب ما بعد الكولونيالي عن طريق ما يأتي:
تفكيك خطاب السلطة الكولونيالية.
تفكيك الصورة السلبية للمواطن الأصلاني.
ما هي ملامح الخطاب الكولونيالي في المسرح العالمي؟
يعد الخطاب الشكسبيري، من أبرز الخطابات الكولونيالية على المستوى المسرحي، إذ وظفت القوة الاستعمارية مسرحيات شكسبير للوصول إلى الهدف الذي يتجلى فيه قوة، وتفوق الثقافة الغربية على ثقافة الآخر، وذلك لأن تداول مسرحيات “شكسبير” داخل الدائرتين التعليمية والثقافية بمثابة قوة لها هيمنتها وفاعليتها عبر تاريخ الإمبراطورية البريطانية، وهذه القوة ما زالت تفعل فعلها في كافة المستعمرات الإنجليزية السابقة.
من أهم نصوص شكسبير الكولونيالية:
- مسرحية “عطيل” تبرز المؤشرات الكولونيالية في وضع شخصية عطيل في عدد من القراءات المختلفة، وتقود هذا النص إلى ثلاثة أنواع من الصراع لإثبات تفوق الذات الغربية على الآخر المغاير ثقافيًا، وهذه الصراعات:
- عطيل وصراع الشمال والجنوب: وهنا يقع الصراع بين الشمال المتمثل بأوروبا وبشخصية ياغو، والجنوب المتمثل بالعربي الإفريقي بشخصية عطيل، الذي هو دخيل على الثقافة الأوروبية.
- عطيل وصراع الألوان: وهنا يقع الصراع بين الأبيض الغربي ياغو والأسود عطيل، وهو صراع يشير إلى العنصرية والتمايز الثقافي ضد عطيل على وفق صراع الألوان.
- عطيل وصراع الأديان: وهنا يقع الصراع بين ياغو ذي العقيدة المسيحية، وعطيل ذي العقيدة الإسلامية.
- مسرحية “العاصفة” التي يرسم فيها شكسبير الصورة الاستعمارية والخطاب الكولونيالي المتفوق على الآخر الأصلاني، إذ يركز فيها على مفاهيم كولونيالية تعتمد على مبدأ الدافعية في إيجاد مساحات أخرى تتحول إلى ملكية استعمارية، تنزع ثقافتها الأصلية لتقدم بثقافة أخرى إلى العالم الجديد. إن مسرحية “العاصفة” تحتوي على عدد من المفاهيم ذات الطابع الكولونيالي والمتمثلة في السيادة وتبعية الآخر الثقافية، وممارسة السلطة المتمثلة بشخصية “بروسبيرو” وإقصاء الآخر المتمثل بشخصية “كاليبان”.
ما هي ملامح الخطاب ما بعد الكولونيالي في المسرح العالمي والعربي والعِراقي؟
1) في المسرح العالمي:
– مثال مسرحي عالمي أول: في مجال النصوص المسرحية المناهضة للخطاب الكولونيالي في الغرب، قدم الفيلسوف الوجودي “جان بول سارتر” نقده إلى الخطاب الأمريكي، إذ أنتج خطابًا ثقافيًا ما بعد كولونيالي كان هدفه فضح التمييز العنصري في معاملة السود، والتمييز العنصري امتداد للخطاب التمييزي ضد الآخر في إفريقيا من أجل استلابها وتغييبها ثقافيًا.
إذ قدم سارتر مسرحية “الشيخ والغانية”، التي تدور أحداثها حول زنجي اتهم بقتل الفتاة “ليزي” واغتصابها، الفتاة التي تجاهر بطابع لا أخلاقي، إذ يتعرض الزنجي إلى التعذيب والقتل، ليس لأنه قام بجريمة، بل لأنه أسود، والنظرة ضد السود كانت عنصرية في أمريكا. وفي نهاية المسرحية تظهر وتعود لممارسة البغاء، ويعطي سارتر إشارات عن الموقف الرسمي الأمريكي في مناصرة البيض عبر مشاركة عضو مجلس الشيوخ في عملية القبض على الزنجي.
– مثال مسرحي عالمي ثانٍ: الكاتب والمخرج الألماني والسويدي الجنسية “بيتر فايس”، كانت مساهماته واضحة في إنتاج خطاب ثقافي ما بعد كولونيالي، ففي مسرحية “أنشودة أنغولا” كان صريحًا مباشرًا في عرض حقيقة الاستعمار وهيمنته على إفريقيا وتحويلها إلى سجن كبير لأبنائها، بحجة نشر رسالة الرب في الأرض، فمسرحية “أنشودة أنغولا” كانت انتقادًا واضحًا للخطاب الغربي الذي ادعى أصحابه نقل الحضارة لإفريقيا والشرق، إذ يسرد فايس إحصائيات عن أضرار الاستعمار في البنيات الاقتصادية والتعليمية والثقافية، فيذكر مثلًا أن بعد 500 سنة من رسالة التمدين لم يتعلم سوى شخص واحد من كل 100 إفريقي، وغيرها من الإحصائيات.
2) في مجال المسرح العربي:
– مثال مسرحي عربي أول: قدم المخرج “فهمي خولي” عرض مسرحية “لن تسقط القدس” للمؤلف المسرحي “شريف الشوباشي”، إذ تناولت المسرحية حقبة تاريخية من الصراع بين الشرق والغرب، هي الحروب الصليبية وما لها من دلالات معاصرة تنطبق على غزو أمريكا للشرق في حربي أفغانستان والعراق، فقد اعتمد الخولي في تفكيك الخطاب الثقافي الكولونيالي، على فكرة المسرحية التي تفكك موضوع إعادة الشرق إلى الدائرة الغربية، بل بنفس المواصفات الكولونيالية في وصف الشرق الغرائبي والهمجي ذات الأهداف الشريرة والأفكار الأسطورية الخرافية.
لقد عمل الخولي في كشف الأهداف الكولونيالية عن طريق استخداماته لقطع الديكور التي تربط بين الواقع والرمز والإيحاء، باستخدام الحبال التي تتعامل مع تغير الديكور كأنها قضبان سجن، وكذلك قلب القبة وتحويلها إلى العكس نحو التقعر، في دلالة إلى محاولة تحويل الإسلام في القدس من فكر ديني ذي قيم عالية، إلى مجرد أفكار بالية قديمة مفرغة من أهم نتاجاتها الإنسانية، وإيحاء بأن الشرق سجن للعقل البشري بعد إفراغه من حضارته الإنسانية، وهذه كلها من أهداف الخطاب الثقافي الكولونيالي نحو الشرق.
– مثال مسرحي عربي ثانٍ: قدم المخرج “روجيه عساف” أيضًا عرض مسرحية “الجرس”، من تأليف “رفيق علي أحمد” والتي تتناول قضية الجنوب اللبناني بعد الاحتلال الإسرائيلي، وهي تحكي قصة راعي غنم من الجنوب اللبناني الذي يقتل ولده على يد المحتلين، فينسحب من الحياة، التي دلل عليها بتجريد معزته من جرسها المربوط في رقبتها، وهنا دلالة على توقف الحياة وصوتها الذي يرمز له بالجرس، فيقدم عساف هذه المسرحية في عرض مسرحي يرفض عبره المسرح الغربي المستورد، ويقدم العرض في صيغة الحكواتي، التي أسس فرقته على هذا الشكل الدرامي التراثي، الذي كان سائدًا في العصر الإسلامي.
اتخذ عساف من فكرة الجرس عرضًا لتفكيك الخطاب اليهودي وادعاءاته في إسكات صوت الآخر بحجة الحضارة والمدنية التي يمتلكها، والآخر العربي ساكن الصحراء أو راعي الغنم الذي يعيش في أرض لا يستحقها بل هي ملك لليهود، فإسكات صوت الجرس وقتل الابن واستباحة الأرض، من مرتكزات الخطاب اليهودي ضد الآخر التي يفضحها عساف في عرضه المسرحي.
3) في مجال المسرح العِراقي المعاصر:
- مثال مسرحي عراقي أول: مسرحية “قلب الحدث”:
تأليف وإخراج: مهند هادي، إنتاج: دائرة السينما والمسرح 2010.
ينطلق خطاب ما بعد الكولونيالية في نص مسرحية “قلب الحدث” على كشف التأثيرات، التي خلفها الخطاب الأمريكي (الخطاب الكولونيالي الجديد) في الساحة العراقية ما بعد (2003) بعد الاحتلال الأمريكي اجتماعيًا وسياسيًا وثقافيًا، إذ يخوض المؤلف في فكرة قلب الحدث، وهو عنوان المسرحية الذي يعطي دلالتين، الأولى مكان وقوع الحدث، وفيها مستويان: مباشر يحاكي القتل الذي يستهدف العراقيين، عن طريق الشخصيات الثلاثة بائع الصحف، والمرأة، والشاب المدمن، أما المستوى الذي يقبع خلف المستوى المباشر فهو النقطة التي التقى فيها الصراع بين الخطاب الكولونيالي المدعوم ثقافيًا واقتصاديًا وعسكريًا وما فرضه على الساحة العراقية، وبين الفعل المقابل المتمثل في الخطاب الثقافي ما بعد الكولونيالي، ووسائل نقده للخطاب الأول المتمثلة في تسليط الضوء على الأهداف المخفية للخطاب الأول، ومحاولة فضحها وتفكيك دلالاتها في قلب الحدث.
أما الدلالة الثانية ومتمثلة في قلب الحدث، أي إظهار صورة أخرى للحدث، أي إظهار الشيء المختلف فيه أو الاختلاف الذي على أساسه بنى المؤلف نصه، وفي هذا السياق الثاني تعبر الشخصيات التي صاغها المؤلف على وفق وجهة النظر الكولونيالية عن الشخصية الشرقية من حيث أنها تعاني من “الاستلاب الثقافي” الذي يمارسه الغرب، المتمثل في الشخصية الرابعة “الرقيب الكولونيالي”، المحركة للأحداث الدموية في العراق، وكذلك “الإغرابية” المتمثلة في تبعية الثقافة العراقية عبر تأثر الشاب المدمن بثقافة الغرب وفنه السينمائي وشخصياته العالمية، وكذلك التمثيل الثقافي للآخر، والذي يظهره المؤلف، كأن من يوجهها ويحركها نحو مصيرها المحتوم هي العقلية الغربية، وليس بإرادتها، فالمؤلف يرسم في نصه صورة للجغرافية الجديدة، التي يريدها الكولونيالي الجديد لأرض العراق وفق الذهنية الغربية الموجهة لتفتيت المقابل وتحويله إلى مقاطعات متناحرة، وهذا ما يشير إليه بالحواجز “الكونكريتية” التي فصلت بين مناطق العاصمة بغداد والصراع القائم بين أبناء البلد الواحد، الذي تمثل باختلاف الشخصيات الثلاثة في الرأي، حتى في أبسط الأمور وصولًا إلى أعقدها، والمتمثلة بطريقة موتهم، ومصدر هذا الموت.
- مثال مسرحي عراقي ثانٍ: مسرحية “العربانة”
تأليف: حامد المالكي، إخراج: عماد محمد، إنتاج: دائرة السينما والمسرح 2013.
ينهض خطاب ما بعد الكولونيالي في نص مسرحية “العربانة” على فك ارتباط التمثيل الثقافي مع الماضي الكولونيالي والمتجدد في الخطاب الكولونيالي الجديد، وملامحه الحاضرة في جسد الثقافة العربية اجتماعيًا وسياسيًا، كون النص يتناول الجانب السياسي وأبعاده في تكوين الجغرافيا الثقافية التي رسمها التدخل الغربي في المنطقة، الذي استند في تمثيله الثقافي والسياسي على مفاهيم الخضوع لمنطق القوة، الذي ولد الاستلاب الثقافي لإرادة الشعوب العربية، التي أسس لها خارطة الطريق التي تسير فيها بلدان المنطقة وشعوبها على وفق منطق التقسيم والحروب والويلات.
إن فك الارتباط بالتمثيل الثقافي الكولونيالي وفضح ملامح هذا الخطاب، جاء عن طريق فكرة الخلاص من الآثار النفسية والثقافية التي انطبعت على جسد الثقافات العربية، إذ تمثلت فكرة فك الارتباط مع الماضي والحاضر الكولونيالي عن طريق الخلاص والبراءة من الوضع القائم بحرق الجسد، الذي تبناه المؤلف بفكرة “الربيع العربي”، التي قامت على حرق جسد “محمد البو عزيزي” في تونس، وتردد صداه في فكر المؤلف وذاكرته بحرق جسد “حنون” بطل المسرحية، فالبو عزيزي في الواقع وحنون في ثنايا النص المتخيل، وهنا أراد أن يؤكد المؤلف بأن الحرق الجسدي لبوعزيزي كان له ارتدادات على مستوى الفكر والثقافة والأدب العربي، للخلاص من إرث الخضوع السياسي والثقافي في الواقع، وكذلك لتفكيك السلطة الكولونيالية وسيطرتها على هذا الجسد وتحريره من تمثيلها الثقافي.
إن فكرة اللقاء في العالم الآخر لكل من البو عزيزي وحنون جعل منهما شاهدين ومحرضين على ثقافة الهيمنة، وما أنتجت من ثقافة قائمة على مفاهيم رفعها المحتل المباشر في العراق وإثارة غير المباشر في العالم العربي بواسطة الحرية والديمقراطية، التي تحولت إلى فوضى هدفها إرباك وزعزعة الثقافة الأصلانية عن مواقعها وتأكيد الثقافة الكولونيالية مكانها، فشعارات الحرية والديمقراطية كشف المؤلف زيفها في مشهد الانتخاب ووعود تغيير حياة حنون، من الفقر والعوز وعربة خضار قديمة إلى حياة الرفاهية والسيارات المبردة التي تجعل من خضرواته طازجة.
مقالات ذات صلة:
النقد العبثي.. قراءة في كتاب “مدارات المجاز في الخطاب”
* تنويه: الأفكار المذكورة في المقال لا تعبر بالضرورة عن رأي الموقع.
_________________________________
لمتابعة قناة اليوتيوب لأكاديمية بالعقل نبدأ، اضغط هنا
لقراءة المزيد من المقالات، اضغط هنا