مقالاتأسرة وطفل - مقالات

التعليم أمر جيد، هذا أكيد، ولكن أليس من الممكن أن نكون نحن من فهم طريقة التعليم بشكل الخاطئ؟

نتابع هذه الأيام أحداث الثانوية العامة. مشاهد متكررة كل عام؛ الأسر الخائفة على مستقبل أبنائها، مشاهد الصراخ والبكاء، المبالغ الخيالية التى تصرف على الدروس الخصوصية، ثم المشاهد الجديدة لتسريب الامتحانات وحالة التخبط العامة التى أظهرت بشكل واضح فشل المنظومة في التعليم وتقييم طلبة الثانوية العامة.

لن أناقش هنا فشل المنظومة التعليمية، نحن نعلم هذا منذ عشرات السنوات. ولن أناقش سبل إصلاح هذه المنظومة، فهذا الأمر يحتاج إلى خبراء لإنجازه. ما أريد أن أناقشه هنا هو الغاية من إنشاء المنظومة التعليمية من الأساس. أعتقد أن فشلنا كمجتمع فى إدراك هذه الغاية، مع بداهتها، هو ما أدى بنا إلى ما نحن فيه اليوم.

قد يظن البعض أن المشكلة تكمن فى منظومة حكومية فقط، ولا دخل لنا كمجتمع بما آلت إليه الأمور؛ لكننا إذا أمعنّا النظر وجدنا أن سياسات التعليم ما هى إلا انعكاس لقناعات متغلغلة فى المجتمع، قناعات مثل أهمية الحفظ فى كل المواد كوسيلة لتحصيل العلم، حتى أصبحت الدروس الخصوصية أشبه بحلقات الكتّاب تعرض فيها كل الأسئلة الممكنة و يلقن الطالب الإجابات النموذجية. قناعات مثل عدم أهمية التفكير والإبداع فى التعليم، فلا وقت لذلك، بل يجب حفظ الإجابة النموذجية وكتابتها فى الامتحان كما هى حتى يحصل الطالب على أعلى الدرجات. قناعات مثل أفضلية كليات القمة وتقدير المجتمع للدكتور والمهندس عن باقى المهن النافعة والتى لا يقوم المجتمع بدونها. هذه القناعات وغيرها ليست فقط نتاجا للمنظومة التعليمية ولكنها أيضا دافع ومحرك لها، فالأمر أشبه بحلقة مغلقة تغذى نفسها.

ولن ينجح أى إصلاح للمنظومة التعليمية ما دمنا نتمسك بهذه القناعات. فالسبيل للخروج من هذه المنظومة الفاشلة هو كسر هذه الحلقة بتغيير قناعاتنا المغلوطة. حتى وإن لم يؤدِّ هذا إلى تعديل المنظومة التعليمية بشكل مباشر، فسوف يقود إلى تغيير تدريجى فى السياسات ليعكس قناعات المجتمع الجديدة. وعلى المدى القصير(أم الطويل؟) سوف تقودنا هذه القناعات إلى حياة أفضل لنا ولأبنائنا. فحين تصبح الغاية من التعليم واضحة، يكون الهدف هو تحقيق هذه الغاية، وليس الاستماتة على كليات القمة والحصول على أعلى الدرجات فحسب.

ولذلك فمن المهم أن نبنى قناعاتنا الجديدة على أساس سليم، لا أن نستبدل بها قناعات أخرى زائفة قد تقودنا إلى مزيد من التخبط. يجب أن تحقق هذه القناعات الغاية السامية من التعليم حتى نصل إلى السعادة فى سبيل تحقيقها، ليس كما يحدث اليوم من البؤس والشقاء الذى نراه فى وجوه الطلبة وأسرهم، هذا البؤس الذى يفرزه عدم وضوح (أم وجود؟) غاية وهدف أخلاقى للعملية التعليمية.

اضغط على الاعلان لو أعجبك

إذا نظرنا للإنسان وجدنا أنه يتملكه الفضول منذ الصغر، الفضول لتجربة كل شىء بحواسه أولا، يرى ويسمع ويلمس ويشم ويتذوق، ثم يكبر قليلا فيبدأ بالتساؤل كيف ولماذا. لذلك يجب أن يكون الهدف الأول لالتعليم هو إشباع تعطش هذا الطفل للمعرفة، واستخدام هذا الفضول الفطرى لديه لتوضيح حقيقة العالم من حوله، ثم ربط هذه العلوم الطبيعية بالخالق المدبّر الحكيم، الذى كما خلق لنا هذا العالم، أرشدنا أيضا إلى دستور أخلاقى يحكم حياتنا. هكذا نوجه المتعلم إلى أن غاية المعرفة هى استخدامها فى تحقيق مهمته التى خلقه الله لأجلها؛ إعمار الأرض وتحقيق العدل.

بهذا الشكل يمر الإنسان بالتجربة التعليمية وينتقل من مرحلة دراسية لأخرى وهو يدرك الغاية التى يتعلم لأجلها، أن يكون إنسانا سويا واعيا يربط العالم الطبيعى من حوله بحكمة الخالق وتعاليمه، ثم يخرج إلى المجتمع ليبنى ويعمر ويحقق العدل على الأرض. فيكون الحصول على أعلى الدرجات والالتحاق بالكلية التى يتمناها هى وسيلة تعينه على تحقيق غايته النبيلة التى خلق من أجلها، وليست هى غاية فى نفسها. فقد لا يستطيع، لأى سبب عارض، أن يلتحق يكليته المفضله، لكنه مازال يستطيع تحقيق نفس الغاية عن طريق أى تخصص آخر يحتاجه المجتمع.

ليست هذه، بأى حال، دعوة إلى الكسل وعدم الجد فى المذاكرة والتحصيل، فإذا فعل الإنسان هذا لن يكون جادا فى تحقيق غايته. الاجتهاد فى تحصيل العلم هو ما يعين الإنسان على البناء والتعمير على أسس سليمة وقواعد راسخة؛ وإذا ما حاول الإنسان العمل بدون معرفة كافية قد يضر أكثر مما قد ينفع. فالغاية بدون وسيلة لتحقيقها تصبح كلاما نظريا لا طائل منه، وأعتقد أن هذا هو ما تعانى منه معظم مجتمعاتنا العربية. ولكن العلم بدون غاية أخلاقية تحقق سعادة الإنسان قد يأتى بنتائج كارثية كما رأينا العلم يستخدم من قبل لتحقيق مكاسب مادية على حساب الضعفاء، كاستخدام الأسلحة الفتاكة واحتكار الشركات العملاقة للدواء. وهذا ما نراه فى الحضارة الغربية.

السبيل لتحقيق مجتمع فاضل هو  بناء إنسان واع بغايته الأخلاقية ولديه الصبر والمثابرة على الاجتهاد فى المذاكرة والتحصيل ثم الجد فى العمل بعلم ومعرفة لتحقيق هذه الغاية.

لقراءة المزيد من المقالات يرجى زيارة هذا الرابط.

ندعوكم لزيارة قناة أكاديمية بالعقل نبدأ على اليوتيوب.

محمد رمضان بركات

كيميائى

عضو بقريق مشروعنا بالعقل نبدأ الإسكندرية