ماذا أفعل لأفهم نفسي وأرى قيمتي؟
قوة الإرادة
ربما لا يلفت انتباهي كثيرًا ذلك الشخص الذي نال درجات عليا من الصلاح بسبب طبيعة نشأته وظروفه التي حملته على ذلك، بل ذاك الشخص الذي تهيأت له كل سبل الفساد والضياع فاختار ألا يركن إليها وقاومها ولا يزال!
لا أقصد بالطبع التقليل من قيمة صلاح الأول، ولا عن درجته الحقيقية في نفسه أمام ربه، ولا عن مصير أحد منهما كيف سيكون، ولكن أقصد الصحوة الداخلية والإرادة العليا التي أعلنت عن نفسها بكل قوة وتبلورت وخرجت للوجود الفعلي تجمله وتخرس آلاف الأصوات التي تنادي باليأس أو القنوط.
وعندما ننظر في التاريخ نجد نماذج لتلك الإرادة القوية التي تعبر عن طاقة لا يُستهان بها يمتاز بها الإنسان، نماذج تبين لما يمكن أن تطيقه النفس البشرية من قدرات حقيقية لها تأثير السحر على من حولها.
نماذج حرة
فمثلاً عندما نجد رجل توفرت له كل وسائل الراحة والإمكانات ليؤسس بيتًا رفيعًا بزوجة وأولاد ووظيفة ومكانة عُليا في المجتمع، وتوفرت كذلك كل السبل لينعم بامتيازات بجانب رجال السلطة والنفوذ، وكل الأهليات ليُحقق حياة هادئة مستقرة رحبة مليئة بمتع الحياة المختلفة وكل ما اشتهت نفسه من أشكال وأنواع من تلك المتع.
نجده رغم ذلك كله، وفي لحظة أو ربما عدة لحظات، اختار ألا يشرع في تحقيق هذا النموذج، بل صنع الضد تمامًا في مواقف هي الأبسل والأروع لردع ظلم الظالمين وجور الطغاة، وربما خسر في سبيل ذلك كل ما يملك من ممتلكات وأشخاص.
القيم العليا تتطلب البصيرة
هذا النموذج عنوان للإنسانية بمعناها الأرقى، فإنها ليست تلك الإنسانية التي يتحاكى بها العالم الآن، لا تلك التي تعني الرحمة بلا سبب أو التسامح والسلام حتى وإن بات ذلك ضرب من ضروب الذل، ولا هي التعامل بطيبة مفرطة مع من يستحق ومن لا يستحق. ولكنها تعني الصحوة التي تليق بمقام الإنسان، الوعي المبصر والقدرة على حسن الاختيار بكامل الإرادة الحرة.
هذا النموذج يُحيّر عقول هذا القرن من أتباع الفكر المادي، لأنه ببساطة لا يفسر لهم نظريتهم القائمة على حتمية وجود مصلحة مادية للفرد من فعله، ويهدم أمامهم كل فرضياتهم في تحويل الإنسان إلى وحش ينهب ما يمكنه نهبه ويهرب.
فهو نموذج يعي مصلحته الحقيقية فعلا، ليست تلك المصلحة المادية المتمثلة في منصب أو جاه أو مال أو شهرة، ويعي كذلك أن المصلحة العامة أولى من مصلحته الذاتية فلا يجعل الثانية تتعارض مع الأولى أصلاً، بل يجعلهما نسقًا واحداً، وهذا لا يمكن أن يتحقق في جميع الأحوال والظروف إلا تمثيلاً لقيم عليا تتطلب بصيرة ليرى مداها.
فلا يفسر خسرانه لعائلته أو بيته أو عمله في سبيل قيمه ومبادئه شيئًا عنده، لأنه يعي جيدًا أن الأمر لا يتمثل في تشييد البيت أو التعلق بالأبناء أو التدرج في المناصب، بل هو في كيفية تطويع كل ذلك من أجل ارتقاء نفسه ومن حوله للقضايا الأكبر قيمة والأعلى قدرًا كالقضاء على الظلم ومحاربة الفساد ونشر العدالة.
الثبات على الاختيار الحر
هذا النموذج الذي نتحدث عنه لا تجده إمعة، أو مفرطًا في التعامل اللطيف مع الجميع، أو ذليل النفس أمام الوضيع، بل هو ذاك القوي الشجاع عزيز النفس، لا يتهاون في الحقوق ولا يذل نفسه أمام شهوة أو رغبة، ولا يرى كذلك فضل لنفسه على الآخرين، وهو بين ذلك وذاك مدرك لأهمية كلمته وقيمة فعله فلا يبرح حتى يحاول إتقان كل تصرف أو وزن كل كلمة.
عندما تجد نماذج كهذه، لا تحدد قيمتها بناءًا على شكلها أو وظيفتها، ولا على نسبها أو عرقها، ولا أموالها وعلاقاتها، ولكن ستحددها وفقًا لقوة اختيار فعلها الحر وثباتها على ذلك، على حملها لقيمها ومبادئها التي تعبر عنها بكلماتها وأفعالها.
الأفعال تنم عن حقيقة الفرد
فأفعال الفرد بالذات تفصح عن مكانته الحقيقية وقدره دون أن يدري، فهي نتاج مجموع فكره وأخلاقه وشخصيته، فيمكن للفرد أن يلوي عنق كلماته أحيانًا لتعبر عن حقيقة أخرى غير حقيقته، ولكنه لا يستطيع أن يلوي عنق أفعاله دومًا مهما حاول.
فالأفعال هي عنوان الشخص وهي المعبر لفهم حقيقته ومكنون نفسه.
فإن أردت عزيزي القارئ فهم نفسك ومعرفة قدرك، فانظر إلى فعلك، وخصوصًا ذاك الفعل الحر الخالي من أي تأثيرات خارجية، ذاك الفعل الحر المعبر عن دوافعك الحقيقية ورغباتك الدفينة.
لذلك قالوا كثيرًا أن الخلوات كاشفات، فانظر وتأمل نفسك قبل فوات الأوان.
“إذا أردت أن تفهم إنسانًا فانظر إلى فعله لحظة اختيار حر، وحينئذ سوف تُفاجأ تماما، فقد ترى القديس يزنى وقد ترى العاهرة تصلى وقد ترى الطبيب يشرب السم.
وقد تُفَاجأ بصديقك يطعنك و بعدوك ينقذك، وقد ترى الخادم سيدًا في أفعاله و السيد أحقر من أحقر خادم في أعماله، و قد ترى ملوكا يرتشون و صعاليك يتصدقون.
انظر إلى الإنسان حينما يرتفع عنه الخوف وينام الحذر وتشبع الشهوة وتسقط الموانع، فتراه على حقيقته يمشى على أربع كحيوان، أو يطير بجناحين كملاك، أو يزحف كثعبان، أو يلدغ كعقرب، أو يأكل الطين كدود الأرض“.
د. مصطفى محمود
اقرأ أيضا: