مات وارتاح .. عن رحلة الحياة ونهاية الطريق
لقد ترك الحياة!
بينما أسير فى شارع سمعت خلال مكبر صوت خبرا يقول : توفى إلى رحمة الله فلان. وكنت قريبة بمكان من أحدهم فسمعته يقول : “أهو مات وارتاح” . تُرى من القائل ؟
ليس شابا هذه المرة لقى نفسه فى وطن يطفيء أنوار الحياة ، ليس شابا تجاور أحلامُه النجوم وهو سجين المتاح القليل الذى لا يراه بأى حال يؤهله لبلوغ النجوم حيث أحلامه!
و ليس القائل من المتأثرين بالغرب؛ الذى يريد حياة غارقة في المادة واللذة لأن يرى فى ذلك سعادته الأكيدة الوحيدة
وليس من هؤلاء المعروف عنهم التنظير عن مآسي العالم ومشكلات الإنسانية والخراب والقتل والدمار والظلم والخراب بمعزل عن الحكمة من الوجود والغاية منه فيكره الحياة .
إنما هو رجل خمسينى طبعت الحياة بصماتِها على هيئته؛
فثنيات جلد جبهته الثابته؛ ربما تعبر عن مواقف نطقت فيها تعابير الوجه بالاستغراب والتعجب برفع الحاجبين،
وما بين حاجبيه ترى ما يشبه الـ (111 مائة و إحدى عشر) –ربما تدل على ما قابل من أحداث وظروف ومواقف قَطَّبَ فيها الوجه من الحزن والغم،
أما على جانبى ثغره فهناك خطان رقيقان محفوران فى خديه يدلان على ما مر به من لحظات ابتسم فيها واستبشر وضحك، وخشونة يديه تعكس عمله الشاق ، وأخيرا شعر رأسه الذى لم يسلم من أثر للحياة فيه؛ إذ تقول الحياة ببياض بعض شعره ” حتما سيفنى هذا الجسد” .
ماذا كان يعنى الخمسينى بقوله ( مات وارتاح)؟!
هل هى فلتة لسان و ليس وراؤها شيء؟
لا أصدق أن شيئا ما يحدث هكذا بلا سبب. ربما لأن أيامنا قليلة ولكلٍ أولوياتُه واهتماماته والأحداث التى تثير انتباهه أكثر من غيرها فيبحث فيها، ربما لذلك تختلف خطورة وقيمة الحوادث فى نظرنا، لكن فى الأخير: لا شيء يحدث دون سبب أو وجوده بلا أثر أو مصيره إلى عدم . ليست فلتة لسان!
هل تظن أن الخمسينى يريد الموت لأنه كره الحياة ؟!
هل تظنه منهكا من همومه ويعيش ظروفا طاحنة لدرجة أنه يفضل أى وضع آخر غير الحال الشاق الذى هو فيه حتى وإن كان الموت؟!
هل يمكن أن يكون القصد من كلامه أن المتوفَّى ارتاح فعلا من عناء الاختيار فى الحياة بين الخير والشر ، و الأكثر خيرا و الأقل ، والأقل شرا والأكثر ؟!
كل هذا ممكن، لم أسأل الخمسينى لماذا علق على خبر الوفاة ب (مات و ارتاح)
ليسوا قلة من البشر!
ليسوا قلة ؛ أولئك الذين شقَّت عليهم السبل حينا و ضاقت فى أعينهم الدنيا لحظة أو أكثر من عمرهم، وفى لحظات الاستيئاس والضيق يودون لو كانوا شيئا غير البشر؛ شجر أو طير أو حتى مروحة.
هذه الكائنات أو الأشياء -التى نود لو كنا هى لحظات استيئاسنا –ليست أفضل من الإنسان.
فأى منها يدرك معنى الجمال وحرية الإرادة والعدل وغيرها ؟!
و هذه القدرة على الإدراك يُفضَّل بها الإنسان على غيره من الكائنات التى نراها.
ربما أيضا فى لحظات الضيق ودُّوا لو أنهم لم يولدوا فيكونون عدما ، ظنا أن الذى لم يولد: هو لم يوجد أبدا ، ظنا أن الذى لم يولد: هو عدم!
ما العدم؟!
هو لا وجود.
و نحن بالفعل موجودون، لذلك عدمنا محال.
ليتنى لم أولد ، ليتنى لم أوجد ، ليتنى عدم … أمنيات مستحيلة.
نحن موجودون … لا مفر!
هل هناك إنسان يقول بأنه أوجد نفسه؟!
إن رأيت إنسانا يقول هذا؛ فهو مخطئ؛ لأن إيجاد الشيء لنفسه يعنى أنه موجود وغير موجود فى نفس الوقت وهو محال عقلا .
أنا موجود ، وأنا لم أُوجِد نفسى، فلابد من واجد أول لى ، هو مصدر الوجود.
كيف أوجدنى بالضبط والتفصيل ؟! لا أدرى، و لا تهمنى الكيفية إذ أراها لا تعنينى فى حركة الحياة ، لكن ما يعنينى هو علمى بوجود المصدر المطلق للوجود ، و أنا حر الاختيار بين أن أكون له أو لأى شيء دونه لكن لأنى منه وإليه فاخترت أن أكون له، و هذا أصل كل حركة لى فى الحياة .
ماذا لو عرضْتَ أنت علىَّ بعض النقود الورقية أحفظها أمانة عندى لوقت محدد حدّدته أنت بالطبع، وأنا تقبلت هذا العرض و أخذت الأمانة ، فهل ترضى منى أن أحرق هذه النقود -عمدا- بلا سبب؟!
ولما يأتى موعد تسليم الأمانة وتسألنى عن النقود أجيبك : قد أحرقتها دون إذنك وبلا سبب!
بالتأكيد لا ترضى منى ذلك، فأنا لست مالك النقود، وبالتالى ليس لى الحق فى اتخاذ قرار حرقها.
كذلك وجودنا على الأرض (فى الكون المرئى) بالهيئة التى اقترنت فيها المادة والمعنى / الجسد والروح/ الحيوانية والناطقية. اقتران معجز!، كذلك حياتنا. فهل أملك أمر وجودى بهذه الهيئة حتى أقرر أن أحرقها بإهلاك الجسد دون مبرر حتى الموت، هل أملك أمر حياتى حتى أنهيها عمدا بلا مبرر؟!
ترى: هل يرضى منك صاحب الأمانة أن تحرقها ؟!
نحن موجودون لا مفر، و قرار إنهاء حياتنا ، إنهاء هيئتنا التى اقترن فيها الجسد والروح : ليس من حقنا أخذه.
فهل يعنى هذا أن الإنسان منا مُجبَر على أن يبقى حيا حتى ينتهى أجله؟!
الإنسان من الممكن أن ينهى حياته، تماما كقدرة أحدهم على إنهاء حياتك ، قدرته على قتلك ظلما وعدوانا.
لسنا مجبرين .. لكنه اختيار بين الظلم والعدل.
فإذا كان الإنسان يستنكر قتل أحدهم للآخر ظلما ،فمن الأولى أن نستنكر قتل أنفسنا ظلما.
كل إنسان حر و مسؤول.
إذا لم أجد سببا لإنهاء حياتي ولا حقا لى فى ذلك ، فهل هذا يعنى أن الحياة أفضل من الموت؟
أرى صياغة السؤال فيها تنبيه هام وأيضا إشكال خطير.
أما التنبيه فهو؛ أنِّى إذا لم أجد سببا للانتحار فإن ذلك لا يعنى أنَّ عندى من الأسباب ما يكفى لتقبل الحياة والإقبال عليها وحبها. لكن ما علينا إلا أن نرى الحياة ونتأملها لعلنا نجدها جديرة بالحب!
أما الإشكال فهى الثنائية الصارخة؛ أبيض أم أسود، الحياة أفضل أم الموت أفضل.
لا أرى أنَّ المشكلة أصلا فى تحديد أيهما أفضل ؛ الحياة أم الموت، إنما فى تحديد؛ متى يكون الموت أفضل من الحياة ، ومتى تكون الحياة أفضل من الموت.
وذلك فى مقال قادم.
اقرأ أيضاً: