مقالاتقضايا وجودية - مقالات

مات وارتاح (الجزء الثاني) .. الموت والبحث عن الكمال!

متى يكون الموت أفضل من الحياة ؟ و متى تكون الحياة أفضل من الموت؟

إن البوصلة التى تحدد لنا الاختيار الأفضل بين الموت والحياة  فى كل وقت هى الغاية.

و إذا علم الإنسان  من أين هو وإلى أين هو، سَهُل عليه تحديد الغاية الصحيحة لوجوده.

إذا علم الإنسان أن وجوده من  الموجود الكامل المطلق(الله) وأن حياتنا على الأرض مجرد مرحلة له فيها هيئة خاصة /له فيها  حرية الاختيار وأن الموت ينقله إلى هيئة أخرى من الوجود ليسأل صاحبُ الأمانة حاملَها “ماذا فعلت بها؟ “، إذا علم الإنسان ذلك: اختار أن  يكون الله وجهته ، اختار أن يحيا لله.

فإذا قابل  الإنسان يوما ما موقفا يُخيِّره بين أمرين لا ثالث لهما ولا مفر من اختيار أحدهما ؛ إما الموت فى سبيل الحق أو الحياة خائنا ظالما ، اختار الموت لأن ذلك الأفضل؛ إذ هو اختار أن يكون لله.

اضغط على الاعلان لو أعجبك

و هذا الموقف أظنه  نادر بين البشر، موقف يحدث فى حياة بعض الأبطال الأفذاذ  سواء حفظ التاريخ هذه البطولة أم نساها التاريخ وحفظها من لا يضل ولا ينسى.

و لأنى  -وربما أنت أيضا –لسنا  الآن فى موقف اختيار بين أمرين لا ثالث لهما إما موت على حق أو حياة على باطل   فإنه لم يعد أمامى -وباختيارى العاقل الحر- سوى الحياة ، ولا أرى –باختيارى العاقل الحر – سوى السعى للكمال قدر الطاقة البشرية غاية أفضل لحياتى.

لست -الآن- مخيرا بين الموت والحياة ، فالحياة أمامى على أن أحياها فى سبيل الحق.

شعرت أن  الكلام سهل كتابته والتحدث به ، ولعل هذا الشعور  سببا كافيا للتوقف أو غير كاف! ، لكنّى توقفت وفتحت (الفيس بوك) و وجدت أمامى هذه الجملة : ” أحيانا تشعر بأن مجرد وجودك على قيد الحياة أشغال شاقة” ، ذكر ناقل الجملة قائلها لكنى لا أتذكره ولم  يهمنى القائل بقدر ما دفعتنى المقولة على الاستعانة بها لاستكمال المقال.

علمنا أن وجودنا منحة من  مصدر الوجود المطلق (الله) و أن  الحياة فى الأرض ( أو الكون المرئى ) أمانة  ليس لنا حق حرقها و قررنا –بحريتنا- أن نحيا فى سبيل الله.

فهل الحياة التى نسعى فيها إلى الله ،إلى كمالنا قدر طاقتنا، هى حياة  بمثابة أشغال شاقة ؟

إن الغاية التى  نختارها لحياتنا تحدد بدورها فى حياتنا معنى السعادة والشقاء، أو بصياغة أخرى: الغاية التى نختارها  تعطى لكل ما يحدث  معناه ونصيبه من السعادة أو الشقاء. فإذا كانت غاية الإنسان  حقيقية أعطت للأحداث  معناها ونصيبها  العدل – قدر الطاقة البشرية- من السعادة والشقاء.

واختلاف الغاية المختارة  بين إنسان وآخر يختلف معنى الأحداث من حيث السعادة والشقاء، فمثلا: لدينا شخصان ؛(أ) و (ب)  و أعطينا لهما عطلة رسمية مدتها ثلاثة أشهر ، غير ملزمين بفعل عمل معين .

الشخص (أ) غايته الكمال-قدر طاقته البشرية-  ووسيلته فى ذلك معرفة الصواب ما استطاع وفعل المعروف فى نفسه وفى غيره. هذا الشخص يمكن أن يستغل عطلته الرسمية فى تعلم شيء جديد نافع أو عمل تطوعى أو ترفيه يرتقى به ويجدد معانى الإنسانية فى نفسه ويقويها، يجتمع بغيره من البشر ليشاركهم ويعينونه على إقامة الإنسانية حق إقامتها .. إلى آخره.

الشخص (ب) يرى أن الإنسان عليه أن يعيش عطلته بالطول والعرض؛

فيقضي بعضها  بين أفلام –بغض النظر عن حظ محتواها من النفع والضرر- غايته الأكبر من رؤيتها مجرد مرور الوقت / أو ضياعه فيها !

وبعضها فى  مشاهدة مباريات أهم ما يجنيه منها هو حب أكبر / أو تعصب أكبر للفريق الذى يشجعه!

أو يخرج فى شلة من الأصحاب ليقضوا بعض الوقت معا/ أو ليقضوا بعض الوقت مع الأكل  ومع أحاديث  قلتها أجدى وأنفع.

الشخصان (أ) و(ب) : وارد جدا أن  يقول كل منهما “أنا سعيد بما أفعل”

لكن أين السعادة حقا وأين الشقاء؟! الإجابة تُحددها بوصلة الغاية.

تحديد غاية كبرى صحيحة  لحياتنا يمكن أن يبين لنا بشكل عام أن هذا الفعل فيه سعادة حقيقية وذاك فيه شقاء، لكن حظنا من الحكمة –و هو بالاكتساب  وبمشيئة من له مطلق العلم والحكمة- فإن نفس الموقف يعطينا هنا فى حياتنا على الأرض شعور بالسعادة مختلف.

فمثلا : الشخصان(س) و (ص) وجد كل منهما شخصا يحمل شيئا ثقيلا ، فقرر كل منهما أن يبادر بمعروف ويحمل عن الشخص بعضا من أحماله الثقيلة، تُرى كيف كان اختلاف الشعور بينهما؟!

الشخص(س) كان يؤدى العمل شاكرا، شعوره بالشكر كان طاغيا على شعور جسده ببعض الإرهاق جراء الحمل الثقيل الذى يحمله.

أما الشخص(ص) كان يؤدى العمل ويشعر ببعض الإرهاق  -الممكن تحمله دون أذى -لكنه كان  يتصبَّر بإدراكه أنه يفعل هذا الخير طواعية والغاية منه هو الله.

و باختلاف حظنا من الحكمة – وهو بالاكتساب  و بمشيئة من له مطلق العلم والحكمة- يختلف أثر المعروف الذى يقدمه الآخر لنا.

فمثلا : الشخصان (س) و (ص) طلبت أمُّ كلٍ منهما نفس الشيء ( شراء شيء ما من محل قريب مثلا وفى وُسعهما فعل ذلك بسهولة) فلبَّى كلٌ منهما الطلب عملا بالواجب وبرا بأمه ، فدعت  كلُ أمٍ – كعادة الأمهات الطيبات – لابنها بأفضل مما يتمنى وأكثر مما يستحق.

الشخص(س) لما سمع دعاء أمه أصابه شعور بالجمال ظن أنه لم يذق مثله من قبل وربما يحيا علي نشوته ساعات وأيام، فما أجمل رضا حبيب صاحب فضل! ويتفكر (س) حينها كيف هو رضا الحبيب  الأعظم الذى منحه الوجود و وهبه الحياة!

أما الشخص (ص) ربما لا يلتفت إلى دعاءِ أمِّه له! هو فعل ما  رآه  واجبا عليه وانتهى الأمر!

الشخصان كلاهما فعل نفس الفعل  ولهما نفس الغاية الكبرى لكن أثر بعض الأحداث فى نفسيهما مختلف باختلاف حظ كل منهما من الحكمة.

وقبل أن نفتح معا باب تأمل الحياة  علَّنا نراها جديرة بالحب،  نتذكر معا :

أن اختيار غاية لحياتنا مبتغين بذلك أن نحيا أفضل لا يعطينا حصانة من ارتكاب الخطأ والوقوع فيه و قد يمر الخطأ دون أن ننتبه!

هذا عادى بحكم بشريتنا وجهلنا وضعفنا! عادى ووارد طالما لم نتعمده أو نتعمد به الانحراف عن الغاية التى اخترناها لحياتنا. وهذا يعنى أننا فى حاجة دائمة إلى اكتشاف المجهول الكثير جدا ! و مراقبة  أنفسنا ومراجعتها ونقدها واكتشاف ما  نقع فيه من خطأ  ونصلحه ما أمكن ذلك،  و نعلم أيضا مع ذلك أن من أَوجدنا يهدينا و يرحمنا ويغفر لنا الكثير.

وجودنا على الأرض، حياتنا ، هل هى جديرة بالحب؟!

ربما آثرت بعض الفظاظة فى عرض التساؤل: ” إذا لم أجد سببا لإنهاء حياتي ولا حقا لى فى ذلك ، فهل هذا يعنى أن الحياة أفضل من الموت؟”

و طرقنا حينها  باب  تأمل الحياة لعلنا نجدها جديرة بالحب فنقبل عليها والآن نفتح الباب.

فى الحقيقة يوجد الكثير الذى يدفعنا طوعا لحب الحياة.

فالحياة – وجودنا فى هيئة تقترن فيها المادة بالمعنى فى إعجاز غامض محيِّر- هى :عطاء .. منحة .. وفرصة ..وأمانة تقبلنا حملها ، هى من مصدر الوجود- من الله، أليست بذلك جديرة بالحب والإقبال عليها؟!

و عندما نختار التوجه إلى الله والسعى إلى الكمال –قدر الطاقة البشرية- فإننا نختار لأنفسنا حياة السكينة والاطمئنان مَهْمَا مر بنا من أحداث نرى فيها خيرا أو شرا  -بنظرنا الإنسانى.

فقد علمنا من أوجدنا وأنَّا إليه نعود، أليست الحياة بذلك جديرة بالحب والإقبال عليها  والصبر عليها أيضا؟!

و الكون بما فيه  من آيات يتجلى فيها الإبداع والجمال ،والتاريخ بما يحكى من سنن، و التجوال فى عقول البشر وآفاق النفوس، أليست الحياة  ناطقة بالإثارة باعثة على الحركة والشغف والفضول والحب؟!

وتأمل  ما يقع  تحت ناظريك ما استطعت ،وتجول فى تأملات البشر للحياة والجمال ، و سر فى التاريخ  متتبعا سننه لعلك تتقبل الحياة  بأحداثها الحلوة والمرة وتحبها صابرا وتصبر محبا وتخشع لواهبها ومدبرها!

و أقل القليل الذى يقال فى جمال الحياة أنه لا يوجد إنسان إلا وذاق على الأقل لحظة فرح أو سعادة أو امتنان أو أى شعور جميل! لحظة رؤية  طفل يضحك أو معروف تفعله أو يُقدم إليك أو إنجاز تقوم به أو كلمة شكر أو  معرفة تكتسبها أو حبيب مسَّته نفحة فرح لطيف فأصابتك عدوى الفرح أو …

السعادة ممكنة والحياة منحة ، ونحن –البشر- نستحق حياة عامرة بالخير والجمال والحب والرضا والصبر الجميل.

نستحق ذلك لأننا جديرون بمثل هذه الحياة.

وغير تلك الحياة ؛لا يرضاها لنا الله الذى أوجدنا ومنحنا الحياة.

 

اقرأ أيضا :

مات وارتاح .. عن رحلة الحياة ونهاية الطريق

المعاناة والألم … هل من سبيل للخلاص من المعاناة ؟ ولماذا نعاني من الأساس ؟

الأمل فوق رؤوسنا، فلتنتعش نفوسنا الظمأى بذلك