مقالات

ليس بكم المعلومات فقط تحيا الأمم – ثقافة الترويج للأفكار

أهمية تبسيط المعلومات وإحداث التغيير

اندلع حريق من المشاحنات، والسب والتهديد، والوعيد بين سائق الميكروباص وأحد الركاب في نهار رمضان، وكاد الأمر يخرج من حيز الأقوال إلى حيز الأفعال بالضرب حتى تدخلت هي وغيرت مسار الموقف تماماً.

هي امرأة في عقدها الثالث من العمر، تجلس بالقرب من الباب، وكان ركوبها قبل اندلاع الخلاف بدقائق.

بدأ عملها البطولي في فض النزاع، وتحويل مسار الأحداث برفضها السماح للراكب الغضبان أن ينزل من الباب ليلقن السائق درساً لن ينساه، ثم توجهت ببضع كلمات بسيطة، ولكنها قوية في تهدئة كل منهما، حتى نالت مرادها واستتبت الأمور وهدأت.

يا لها من بساطة ساحرة!

أعرف كل كلمة استخدمتها، وكل المعلومات التي سردتها لتهدئة الأمور، بل ربما أعرف اكثر من تلك المعلومات بقليل، ورغم هذا كانت أكثر براعة مني في إيصال تلك المعلومات للناس، وتغيير مسار الحدث تماما من احتمالية تشويه، وإصابات، وغيره إلى سلام محفوف بنصائح رقيقة، وتعزيز للوازع الداخلي لديهم، وعظة لباقي الركاب جميعا، ودرس قوي لي.

لو افترضنا إني تحدثت، لربما قلت كلمات ذات معاني أعمق بحكم سابق معرفتي لبضع المعلومات التي تتحدث عن النفس وقواها، ولكن أكاد أجزم أن كلماتها كانت أوقع في نفوسهم، وأبلغ لعقولهم، وأكثر حذاقة ومناسبة للموقف.

اضغط على الاعلان لو أعجبك

ما السبب إذًا؟

على نفس المنوال، نجد آلاف الكتب التي خطها مفكرون عظماء وأدباء أجلاء ملقاة على الأرصفة لا تمتد إليها يد واحدة! في مقابل عشرات الكتب ذات الأسلوب الركيك، والموضوعات التافهة يتهافت عليها الكثير.

ربما ليست المشكلة في الناس بقدر كونها في أصحاب الأقلام من ذوي العقول الأكثر قدرة على التحليل والفهم، فبرغم بلوغهم أعلي الدرجات في ذلك، ولكنهم كانوا الأفشل في الترويج لأفكارهم للناس.

ربما تكمن أزمتنا كمجتمع ليس في الكم الهائل من الإسفاف والفساد، ولكن في الكم الهائل من المعلومات القيمة، والمعارف العظيمة التي لا يجتهد من يفهمها في أن يروّج لها، ويصلها إلى الناس لينتفعوا بها، ويروا من خلالها رفعتهم الحقيقية، فأنا على يقين أن الذهب لو وضع بجانب التراب لظهر الفرق جلياً للجميع، ولأصبح التمييز أيسر.

ربما تقع المسؤولية الكبيرة على أصحاب الأقلام – من لديهم القدرة على التعبير وصياغة المعلومات – ولم يتفنن في كيفية نقل ما ينفع الناس حقاً من علوم ومعارف، وبدلا من ذلك التفت إلى نفسه، وصب جُل جهوده في إبراز أفكاره وأرائه هو للناس في محاولة لنيل بعض من مال أو شهرة أو مكانة.

ثقافة الترويج

عملية الترويج، أو بالمسمى الدارج الآن “التسويق”، من أهم العمليات الاجتماعية التي لا يقوم مجتمع دونها. ليس المقصد فقط هو ذلك الترويج للبضائع والخدمات لزيادة أرقام المبيعات، ولكن تلك العملية التي ينتقل فيها الشئ من شخص إلى آخرين، خصوصا في عالم الأفكار والمعاني.

العملية ليست هينة، بل تحتاج لمهارة عالية لإتمامها بالشكل الذي يخدم الفكرة المراد إيصالها، ويعتمد ذلك على مدى استيعاب الناقل للفكرة نفسها، ومدى استيعابه الفكري للآخر، واحتوائه النفسي له، وتحليله لقنوات التواصل التي تناسبه، بالإضافة لتصفية أية شوائب قد تشوش على الفكرة سواء من داخل النفوس أوخارجها.

ويا ليت الأمر ينتهي عند هذا الحد، بل يمتد لوضع مسار للفكرة يحفظها قدر الإمكان من التحور أوالتبدل والتغير حتى لا ينالها ما يفسدها بعد كل هذا البناء، إن افترضنا أن البناء تم بشكل صحيح.

نداء لأصحاب العقول

يا ليت أصحاب العقول والأقلام ممن رزقهم الله قدرات في الفهم ومهارات في الصياغة أو الحديث، يا ليتهم يلتفتوا إلى المجتمع وليس إلى أنفسهم فقط، ويكون لهم دور في بناء جسر متين ينقل -بشييء من التجديد والتطوير- ما هو صحيح من الصرح المعرفي القديم إلى عقول وقلوب أبناء هذا الزمان مما ينفعهم وييسر لهم الطريق نحو سعادتهم، فيحققوا الترويج الصحيح االذي يخرج مجتماعاتنا من ظلماتها إلى النور، بدلاً من ترك الساحة لأصحاب الضمائر النائمة، والمطامع الجمة في الوصول للأموال والشهرة على حساب حياة الاخرين.

 

اقرأ أيضا :

توهم المعرفة.. هل كل خريج جامعة يعتبر متعلم ؟

لُب الزيتونة .. البحث عن السبب الجذري أفضل من معالجة الآثار الناتجة عنه

نحو عناية أشمل بصناعة الإنسان

هبة علي

محاضر بمركز بالعقل نبدأ وباحثة في علوم المنطق والفلسفة