لماذا يكتب أحمد مراد؟
في لقاء تلفزيوني مع الإعلامي معتز الدمرداش باح الكاتب أحمد مراد بدوافعه نحو الكتابة قائلًا إن كل شيء كان متاحًا له، من الوظيفة المريحة والسيارة حتى لعب البلايستيشن، الحياة كلها بين يديه، بإمكانه أن يقضي الصيف في الساحل الشمالي، لكنَّ شيئًا ظل ناقصًا لديه، من منطقة الراحة هذه أتى الدافع القوي الذي جعله يكتب أول رواية له “فيرتيجو”، بعد سهرة مع صديق له في أحد الفنادق المُطلة على القاهرة من علٍ، ثُمَّ توالتْ أعماله الروائية الأخرى، وأفلامه السينمائية التي يرتكز أغلبها على إحدى رواياته، كان آخرها فيلم “كيرة والجن” المأخوذ عن رواية 1919.
في كتابه “القتل للمبتدئين”، يذكر مراد أنه ورث مهنة التصوير الفوتوغرافي عن والده، نفس شرارة كتابته للرواية الأولى، التقط في أحد المصايف صورة عشوائية بالكاميرا، أثنى عليها والده، ومِن يومها احترف التصوير ليعمل بعد ذلك مصورًا خاصًا للرئيس السابق حسني مبارك.
ينطلق مراد دومًا من المنطقة الآمنة، كل شيء لديه مُجهَّزٌ ومُعدٌّ، يبقى التنفيذ فقط، هناك مَن يرى أنه أقل ذكاء في حواراته، يزداد معدل الذكاء في رواياته، يصل إلى درجة معقولة في أفلامه بفضل المخرج مروان حامد، على الجانب الآخر يمكن النظر إلى تلك الحوارات كونها طريقة خاصة به تجعله داخل دائرة التريند، في النهاية لا يُعير مراد اهتمامًا بمن يتهمونه بالسطحية بدءًا من تفريقه بين القصة والرواية وصولًا إلى مفهوم الكتابة ذاته، يبدو مراد واثقًا حتى في حديثه عن التقنيات الفنية في الرواية والسيناريو، مشكلتنا معه –أو اختلافنا– نابع من ذلك اليقين، يقين لا يجرحه يأس ولا إحباط، مشكلتنا نحن أننا نعتبر الفن مناقضًا لذلك اليقين، ينبع من الشك، يثير الغبار، لا يصد الرياح، ولا يحد من قوة العواصف.
وهم الذِّكر الثاني
لماذا أكتب؟ سؤال طرحه عليَّ الكاتب سامح فايز منذ عِدة سنوات في أثناء إعداده تحقيقًا عما يجعل أحدُنا يجترح فعل الكتابة، أرسلتُ له أقل من خمسمائة كلمة، مقالًا قصيرًا عبرت فيه عن وجهة نظري وقتها، كانت فكرة الخلود تسيطر على كثير ممن كتبوا معي في ذلك التحقيق أو الملف، حتى أنا لم أسلم من مَسِّ ذلك التفكير بالبقاء سنين عديدة بعد رحيلي، أكتب لأبقى، كيلا أصير نسيًا مَنسيًا، هذا هو العمر الثاني الذي أشار إليه أحمد شوقي في بيته المشهور “فالذكر للإنسان عمر ثانٍ”، بعد أعوام أخرى تجاوزتُ ذلك التفكير، علوتُ كتفي أمير الشعراء فرأيت ما هو أعمق من “الصِّيت” و”الذكر” وكل مصطلحات توهُّم رسوخ الإنسان في دنيا مرهونة للزوال.
وجدتُ في فعل الكتابة نفسِه أكبر مما كنت أرى من قبل، وضعتُ يدي على كلمة برَّاقة، كلمةٍ ناعمةٍ، لامعةٍ كحدِّ السَّيف، “الفهم”؛ الكتابة وسيلة لفَهم النَّفْس والعالم، فَهم الآخر، فَهم المطلق، “الثابت والمتحول”، هناك وعن طريقها يُمكن أن أضع علامات استفهام كثيرة غير مُريحة، لكنها أفضل من إجابات يلوكها كثيرون مُدَّعين اليقين التام، إذ الراحة لديهم إشارة لخمول النفس.
نقاوم ولا نستسلم
انطلقتُ من هذا المفهوم، ليس على مستوى الكتابة فقط بل تعدَّى الأمر إلى القراءة نفسها، أقرأ كأني أكتبُ، عقلي يُزحزح الألفاظ عن مكانها، فتُولَد معانٍ جديدة غير التي يرمي إليها صاحبها، بهذه الطريقة أكدُّ في جمع الأسئلة المتناثرة من حولي، داعية إلى حل مغاليق، وتحريك سواكن، وارتياد سماوات مُفتَّحة الآفاق.
في كتاب “ورد ورماد” رسائل بين محمد برادة ومحمد شكري، لمستُ سرًا من أسرار الكتابة، “المقاومة”؛ ينصح الناقد المغربي محمد برادة صديقه محمد شكري أن يكتبَ، أن يقاومَ الكسلَ، والفراغ، وعدم التحقق، وعدم جدوى ما نفعل، وتجاهل وسخرية المحيطين، أن نصوب لهم سهامنا، نرشقهم بالحروف، نكتب، ونقاوم، وفي النهاية المكسب والخلاص لنا.
في فيلم (Misery) يخضع كاتبٌ شهيرٌ لسلطة قارئته المهووسة به، المفتونة بكل ما يكتب، ترغب تلك الفتاة –وقد احتجزته في بيتها– بعد حادثة تقع له، تؤخر شفاءه بإعطائه حبَّات دواء غير ناجعة، تُحضر له أدوات الكتابة من ورق مناسب له، تريده أن يكتب مرة أخرى رواية ميزري، تريد منه أن ينصف ميزري ألا يجعل قدرها كما فعل في الرواية، هل تصل سلطة القارئ على الكاتب إلى هذه الدرجة؟! يقاوم الكاتب، كل أنواع التسلط ويُهشم الرأس العنيد ليتخلص من هذا السجن.
محمد برادة كان يريد من شكري أن يُقاوم ذلك المجتمع الذي يُشبه تلك الفتاة في الفيلم الأمريكي، علينا أن نكتب كما يليق بالكتابة، لا كما ترسمها وتخططها وصفات القراء وأهواؤهم، وربما “ترينداتهم”.
في فيلم (Trumbo) تمنع السلطة في أمريكا –في فترة ما بعد الحرب العالمية الثانية– كاتب السيناريو دالتون ترامبو (Dalton Trumbo) من الكتابة، لانتمائه للحزب الشيوعي الأمريكي، بعد أن سجنته وآخرين لهم الانتماء نفسه، لكن ترامبو يقاوم، ويكتب بأسماء مستعارة، لم يتوقف عن فعل المقاومة/الكتابة، لم يُرد أن يوقف قلمه من أجل نزوات السلطة وحماقاتها.
مطرقة دفرين
عربيًا، نعيش المأساة مضاعفة، نقاوم كي نكتب، وكي نعيش، في السجن كانت القراءة عند الدكتور زكي مبارك تُحطم الجدران الكئيبة لغرفة شحيحة الضوء والحياة، ظلَّ يقرأ مدة ساعات طويلة متواصلة حتى أُصيبتْ عيناه بمرض أضعف بصره طيلة عمره، تُذكرني حكايته ببطل فيلم إصلاحية شاوشانك (The Shawshank Redemption) “آندي دفرين”، كان يقرأ في مكتبة السجن أيضًا، وقد طلب تزويدها بالمئات من الكتب.
طلب دفرين من صديقه “ريد” أن يُحضر له مِطرقة صخور، ظنَّ ذلك الصديق –الذي قام بدوره الممثل مورجان فريمان– أنه يُريد أن يحفر نفقًا في هذا السجن العتيد، سخر منه قائلًا إن بإمكانه الزحف صوب الحرية بعد 600 سنة، سخرية الصديق مُرَّة، لكنها لم تنسف الطموح في قلب” آندي”، وصل إلى هدفه بعد عشرين عامًا قضاها ظُلمًا، لكنه قاومَ ووصل.
كلنا نحتاج تلك المطرقة الصغيرة لنخرج من تلك الدهاليز التي حُبسنا فيها، اكتشفتُ بعد إعادة مشاهدة ذلك الفيلم أنه مقتبس من رواية للكاتب الأمريكي ستيفن كينج، مثل فيلم (Misery) المأخوذ أيضًا عن رواية للكاتب نفسه.
نحفر في الظلام
نحتاج أن نحطم أوهامنا، ونحفر بصبر وثبات لنخرج إلى النور، ونلتقط أنفاس الحرية، وهي تحبو خلف جدراننا، نبحث عن تلك الموهبة التي ذكرها توفيق الحكيم في مطلع كتابه “سجن العمر”، حينما قال: “موهبتي سجينة طبعي، ولكني أقاوم”، الحكيم اكتشف المقاومة قبل محمد برادة بكثير، كأننا في عالمنا الثالث خلقنا لنتعلم المقاومة قبل تعلم الكتابة.
طه حسين نفسه قاوم، وتعلم، وقرأ، وكتب، لم يُغادرني صوت الشيخ الغليظ في مسلسل “الأيام” وهو يناديه “تقدم يا أعمى”، عمَّقت موسيقى عمار الشريعي الإحساس لديَّ، وملامح أحمد زكي المنكسرة، كلما تذكرت ذلك المشهد يقشعر بدني.
العتمة سور.. والنور بيتوارى
ميته تخطّى السور يا نواره
ويهلّ عطرك ع الخلا.. ويفوح
لكنَّ التاريخ أفنى غلاظ القلوب، وأبقى المثابرين، الخائضين الحياة “ببراءة الأطفال وطموح الملائكة” كما يقول نجيب محفوظ في نهاية ملحمة “الحرافيش”، العزاء عن كل ذلك في الكتابة التي قد تنبع من ركام قلة الحيلة، وضيق ذات اليد، وعوز الكاتب، وحاجاته المُلحة للعيش بكرامة، وفي الوقت نفسه توقه للتحقق، ربما أيضًا تنبع من الرفاهية، التي تحقق للكاتب ما لا يقدر على توفيره، وهو في دوامة الحياة، تطحنه رُحاها.
مقالات ذات صلة:
* تنويه: الأفكار المذكورة في المقال لا تعبر بالضرورة عن رأي الموقع.
_________________________________
لمتابعة قناة اليوتيوب لأكاديمية بالعقل نبدأ، اضغط هنا
لقراءة المزيد من المقالات، اضغط هنا