لماذا يتركنا نتأرجح بين الألم والملل – هل يمكن أن تكون للآلام والمعاناة فائدة ؟
الألم ومعاناته
صديقي شاب وما أثقل مرحلة الشباب، إنها التخبُط فى أثناء مواجهة الحياة، وتهذيب وبناء معدن الرجل، ومعرفة الذات،
والخروج من مرحلة الطفولة البسيطة إلى الشباب، وأن كل ما تريده تقرر أن تسعى بِجِد للحصول عليه
. صديقي لم ْيتقبل ذلك، فقد بدا َلهُ أن الحياة ستتواطأ معه لخدمته حتى يحصل على مايُريد من الحياة، وحين لم يحصل –ورغم إيمانه بالله مطلق الكمال- انقلب َعلى الحياة، مُعتقدا أن الحياة صعبة ومعقدة وعدم وجودها كان خيرًا من وجودها؛ فهي تتأرجح بين الألم والملل، وكلاهما شر لايُحتمل في نظره، ولولا أن ماوراء الموت مجهول لتقدم نحو الموت.
لايخفى على أحد أن حالة صديقي ليست بحالة فردية، إنما هى عامة أصابت العديد من شبابنا العربي خاصة عندما وصلت الكثير من دولنا إلى حالة من الانحدار الأخلاقي والاقتصادي والاجتماعي والسياسي، ولن أتوقف هنا كثيرًا، لأنها نهاية يائسة وصلنا إليها وما كنا لنصل إن كانت البداية سليمة، للعودة للبداية السليمة أتساءل كيف حُكم على العدم بأنه خير من الوجود، والعدم معدوم؟ فإذا كانت سوء حالة الحياة التي نعيشها هو ما يجعلنا نُرجح العدم على الوجود، فهل حقًّا عرفنا طبيعة خصائص الحياة حق المعرفة؟
البداية بمعرفة الله
إن معرفة الله هي أول معركة عقلية يجب أن يخوضها الإنسان حتى يصل َبعقله إلى الله وصفاته وإرادته فى الحياة ومابعدها، فإن كانت بداية الوجود من فيض إله حكيم كامل،عرفنا أن الوجود له حكمة وغاية، وإن كانت من عشوائي ناقص، عرفنا أن الطريق بلا حكمة ولاغاية؛ لأن فاقد الشيء لايعطيه، ونحن نعرف مقدما أن الله هو بداية كل بداية، وهو مطلق الخير والحكمة، فإذن هو لم يخلق “الألم” إلا وله في إيجاده حكمة.
ولولا أن صديقي على يقين بوجود الله، وعلم أنه مطلق الكمال يستحيل أن يطرأعليه نقص-لأن الناقص لا يخلق شيئًا ينقصه-لَمَا جادلته فيما يعتقد –أن الحياة شر-لأنه لولا وجود الله، مطلق العلم والقدرة والإرادة والخير لماكان للحياة معنى، ولامعنى لكل معنى نضعه للحياة وهي لاتفرق بين الخير والشر والكل عندها ينتهي عند نهاية واحدة وهي الموت.
لذلك يقول التاريخ أن أكثر الحكماء تفاؤلًا هم المؤمنون بوجود الله، ولا أنوي هنا أن أجعل من كلمة “الله” قبضة أضرب ُبها العقول وأمنعها عن التفكير، ولا أن نُثبت وجود الله من عدمه، ولكن أحببت أن أسير معكم على سبيل كل عاقل، يبدأ بالقواعد الكلية ثم يتوغل فيما هو تحتها على ضوئها، لا العكس، وما تبقى من المقال يتوقف على إيمانك، هل الله موجود أم لا
الألم
عندما ننظر إلى مشكلة الألم بنظرة سطحية عاجلة نعتقد أنه شر خالص، ومن الخير أن لا يوجد، ولكن إذا َتفكرنا بعقل هادئ وعميق، مؤمن بحكمة الله فى خلقه، لعرفنا أن الحياة ستكون مُشوهة بدون لذة، وألم، وحالة بينهما، وأن طلب حياة خالية من الألم هو طلب عاطفي غير عاقل، وصاحبه يجهل أن العاطفة لن يكون لها معنى بدون تدافع اللذة والألم، وللنظر في أهمية وجود الألم نقسمه إلى نوعين: حسي ومعنوي.
النوع الأول: حسي: هو شعور سلبي يصاب به عضو من أعضاء الجسد، وحكمة هذا النوع من الألم هي أن ننتبه إلى أن العضو مريض، وأننا يجب أن ندفع المرض حتى يزول الألم ، فمن أراد مرضًا بدون ألم، عرض حياته للخطر؛ فقد تصاب بجرح أثناء النوم ولاتشعر بألم حتى تموت من شدة النزيف، وكلما كان العضو مهمًّا وحساسًا زاد الألم ليزيد انشغالك بدفع الضرر، وإن كان الألم على هيئة تنبيهات غير مؤلمة فليس جميع بني آدم يمتلك الحكمة لكي يدفع عن نفسه ضرر ًالا يؤلمه الآن، ومن لايُرد مرضًا من الأساس، فهو بالأحرى يطلب أن يكون من الملائكة أو الجمادات.
وأتساءل: كيف سنؤدب من أخطأ، إن كان العقاب بلا ألم؟
النوع الثاني: ألم معنوي: وهو ما يُصاب به العقل أو القلب. ولنستهل حديثنا باقتباسات بالغة الجمال وكافيه الإجابة، يقول الله أحسب الناس أن يقولوا آمنا وهم لايفتنون”، قال هيجل “المُعاناة والألم مسائل ضرورية تماماً لارتقاء الإنسان، والركّب الإنساني”، بالفعل إننا نصبح مؤمنين وحكماء وأكثر مرونة وشجاعة
فقدان الألم هو فقدان للحياة
من خلال الآلام والمحن، فنحن لا ندرك أهمية النعمة إلا عندما نفقدها، فإن كان الفقدان مؤقتًا حافظنا عليها عند عودتها، وإن كان نهائيًا تخطينا ذلك لنتجلد على الألم، ونرتقي إلى مرتبة أسمى في طريقنا نحو التكامل وهو ما يجعلنا جديرين بالسعادة الأبدية، مطلب كل عاقل.
ولكم هو ممتع أن تتخيلوا معي أن عقولكم وعواطفكم تتمرن في صالة للألعاب الرياضية، ألن تصنع منا التمارين الشاقة مؤقتًا رجالًا ونساءً أشداء الإرادة مستصغرين لكل ألم. وأولئك الذين لم يتغلبوا على الألم حتى استفحل، لقد كانوا قادرين في البدء لكنهم استسلموا حتى استدرجهم الاكتئاب والعدمية إلى أحضانهم، حتى تمنوا لو أنهم فقدوا مشاعرهم بالكلية، ولكنهم في سهو عن حقيقة أن الحجر وحده هو الذي سلب نعمة الإحساس، وإن سلبنا بالمثل نعمة المشاعر والإحساس لأصبحنا جثثًا متحركة، لانعرف معنى للحب ولا للتعاطف مع الفقير أو مساعدة محتاج، ولو كنا في سعادة ولذة دائمتين لفقدت كل منهما المعنى من فرط التعود.
إذاً هل الألم شر ؟
ننتهي إلى أن الألم ليس من الشر، وكيف يكون شرًّا وهو يعود علينا بالنفع؟!، وإنما الشر هو أن لاتتعلم من الألم، وتستسلم وتُضيع فرصة دفع غطاء قبيح الشكل عن كنز سيمنحك حياة أفضل، مُتاح لكل من أحب الحياة كما هي، ولم ْيُضيع نعمة الوجود وهو يتمنى مُحالات، ولتتيقن أن الجميع يتألم من شيء ما، وليس الألم مقتصرًا على شعب دون الآخر، وإنما هو للجميع، منحة بعدل إلهي لايُحمل إنسان فوق طاقته، حتى إذا حاسبه ربه، كان الحساب عادلًا، وإذا أنعم عليه كان مُستحقًا للنعيم.
إن كُنت تُعاني من مشكلةٍ فعليك بمعالجتها حالًا، وتوقف عن الاستسلام والتمرد على الحياة فهي من صنع إله رحمٰن رحيم، وهي مهما امتدت قصيرة، يتبعها حياة لا تنتهي يستحق ثوابها مَنْ اجتهد في الحياة الأولى.
(يُتبع بجزء ثاني)
اقرأ أيضًا :
هل هناك سبيل للخلاص من المعاناة ؟
الله والعلم
البحث عن السبب الجذري