إصداراتمقالات

لماذا مصر؟

جلس معتدلًا أمام الأضواء الباهرة التى تكاد تعميه، متممًا على مكبره الصوتى، مراجعًا أفكاره قبل أن يتأكد من لكنته (الفلاحى) المصطنعة التى يرى أنها تجعله لقلوب البسطاء أقرب، قبل أن يبدأ البث ليستهل حديثه بصوته الجهورى المعتاد صائحًا: “مصر بتتحارب يا اخوانا”، لتمضى ساعات البث الطويلة له ولأمثاله بطيئة مملة وكأنها تأبى أن تمر مرور الكرام على تلك الكلمات حول المؤامرة الساذجة التى يرويها إعلامنا الذى أزكمت رائحة فساده وجهله الأنوف، ولكن هل يعنى هذا أن مصر بلا قيمة؟ هل يعنى الخطاب الأجوف وكلمات الجهلاء أن المؤامرة ما هى إلا خيالات وأوهام؟ الحقيقة أننا ههنا فى طور البحث عن حقيقة ما يُقال حول المؤامرات التى تحيق بالوطن من كل جانب، بعيدًا عن تلك المزاعم الساذجة حول الأسطول الأمريكى فى البحر الأحمر الذى يستعد لضرب مصر سعيًا لإسقاط نظام مبارك، أو الاجتماعات الدولية التى تضم حماس، إسرائيل، إيران، تركيا، أمريكا، وروسيا بل وربما بلاد الواق الواق لإسقاط خارطة الطريق الحالية.

بداية الكلام يجب أن ننطلق من رؤية السير هالفورد ماكندر، والذى يرى أن حركة التاريخ تدور حول الصراع بين قوى البر والبحر ما بين الدول القارية والبحرية للسيطرة على العالم، إذ ينطلق السير ماكندر من كون الدافع للتوسع هو الأصل لدى كل دولة، وبالتالى فإن القول بأن دولة تريد السيطرة على العالم يكون مطابقًا للواقع تمامًا، إلا أن للسير ماكندر نظريته الخاصة حول السيطرة على العالم وقد أطلق على تلك النظرية اسم (قلب العالم)، ولفهم تلك النظرية يجب أن ندرك أن ماكندر قد آمن بأن النصر ولابد أن يكون حليف البر، وقد رأى أن ذروة القوة البرية تتمثل فى المنطقة التى أطلق عليها قلب العالم، فبالنظر إلى خريطة العالم وجد ماكندر أن القارات الثلاث الكبرى وهى أوروبا آسيا وأفريقيا تمثل ما يشبه جزيرة أطلق عليها جزيرة العالم، وأن قلب تلك الجزيرة يشغل أواسط آسيا، بالتحديد فى تلك المنطقة التى تمتد من حوض نهر ينسى فى الشرق حتى شرق أوروبا فى الغرب، ومن المحيط القطبى فى الشمال حتى تركيا ومنغوليا فى الجنوب، وذلك قبل أن تمتد نظرته لمنطقة قلب العالم عام 1919 لتشمل أوروبا الشرقية بأكملها، فكان ماكندر بطرحه هذا قد تنبأ بالقوة السوفيتية كقوة قادرة على التربع على عرش العالم.

ليأتى نيكولاس سبيكمان فيما بعد مؤيدًا للنظرة السابقة فى أن صدام القوى ما بين البر والبحر هو محور الصراع، وأن النصر حليف لمن سيطر على قلب العالم، والذى بدوره يمنح السيطرة على جزيرة العالم، إلا أن سبيكمان رأى أن تلك السيطرة على قلب العالم لا تكون بالامتلاك وإنما بالحصار، ليسطر نظريته الخاصة حول السيطرة على العالم والمعروفة باسم (حافة الأرض)، حيث يرى أن مصدر قوة قلب الأرض متعلق بمدى قدرته على الوصول لمصادر المياة الدافئة، وأن بتلك القدرة يصبح قادرًا على السيطرة على العالم، وبالتالى تصبح حافة الأرض هى ساحة الصدام وحلبة الصراع الحقيقى بين القوى العالمية، وقد وضح سبيكمان تلك الحافة بأن ضمت آسيا الصغرى والجزيرة العربية والعراق وأفغانستان والهند وجنوب شرقى آسيا والصين وكوريا، لتُطرح ولأول مرة أهمية المنطقة العربية وبخاصة شبه الجزيرة العربية، إلا أن هذا ليس كافيًا ليبرر تلك المزاعم حول المؤامرة على مصر خاصة، وإن أبرز أهمية المنطقة العربية وبخاصة النصف الأسيوى لدى قوى الصراع العالمى برًا كانت أو بحرًا.

وكما سبق أن أسلفنا إن ذلك كله لا تعد مصر فيه عنصرًا أساسيًا كما يحاول البعض أن يصوره، إلا أن دور مصر فى تلك المعادلة الدولية يظهر جليًا مع طرح العنصر التاريخى، فالزعامة المصرية للعرب لا شك فيها وقد نالتها مصر عن استحقاق لمواقفها التاريخية، وقد برز هذا الدور بخاصة مع مجىء جمال عبد الناصر إلى الحكم والذى دعم تدعيمًا جادًا حركات التحرر العربية المختلفة، حتى كان عام العدوان الثلاثى والذى شهد قدرة مصرية لا شك فيها للتأثير على مجرى الصدام الدولى، ليطرح هنا السؤال الأهم حول ماهية الصراع أو مبرراته، وقد صاغ صموئيل هنتنجتون المبرر الأهم فى قوله: “إن صدام الحضارات هو الخطر الأكثر تهديدًا للسلام العالمى، وإن نظامًا عالميًا يقوم على الحضارات هو الضمان الأكيد ضد حرب عالمية”، ليضم إلى اللوحة الجغرافية للصراع الدولى الجانب الحضارى الذى يعد محورًا أساسيًا فى الصراع، فبالنظر إلى الواقع التاريخى نجد أن التكتلات الدولية المختلفة القائمة على الظروف آنذاك أو حتى بالنظر إلى اتفاق الأيدلوجيا تتداعى سريعًا، على عكس ما يحدث للتكتلات الحضارية التى تتفوق على مثيلاتها التى تتجاوز الاختلافات الثقافية، مما يفسر مقولة جاك ديلوز: “الصراعات المستقبلية سوف تشعلها عوامل ثقافية أكثر منها اقتصادية أو أيديولوجية”، مما دفع بالصدام الفكرى والثقافى إلى حلبة الصراع وجعله ضربًا من الوجوب.

لذا ومع دور مصر الذى وإن بدا هامشيًا فى الصراع الجغرافى إلا أن أهميته تتجلى فى الصدام الثقافى والفكرى، كان لابد من إعادة صياغة الوعى المصرى فى خطوة مدروسة لانتزاع الهوية المصرية من جذورها العربية والإسلامية أولًا، وهو ما قاله د. محمد عصمت سيف الدولة: “وكانت الخطوة التالية هى تشكيل جيش من المفكرين والكتاب والصحفيين والإعلاميين، مهمته توجيه مدفعية فكرية ثقيلة، إلى كل ما هو عربى وكل ما هو إسلامى وكل ما هو وطنى أو تقدمى .. وافتتح الهجوم توفيق الحكيم عندما كتب فى أواخر السبعينات مقالًا بعنوان حياد مصر، طالب فيه بأن تقف مصر على الحياد بين العرب وإسرائيل، كما وقفت سويسرا على الحياد فى الحرب العالمية الثانية، وانضم له فى الهجوم لويس عوض وحسين فوزى، وبدأوا حملة على عروبة مصر وعلى ما أسموه بالغزو العربى الإسلامى، ونادوا بالفرعونية وبحضارة 5000 سنة، وبالروابط التاريخية بيننا وبين اليهود … إلخ”، لتتم تجرفة الوعى المصرى وتهيئته لتقبل الثقافة الجديدة القائمة على المصلحة والانحياز إلى القوة، وهو البنيان الذى تزلزل بشدة مع قيام ثورة الخامس والعشرين من يناير والتى حاول النظام فيها التذرع بأن الثورة أمريكية ليعيد إلى الأذهان الموروث الفكرى القائم، ولتبدأ معركة الحضارات من جديد، وليتمحور فيها دور مصر لتصبح المؤامرة أمرًا واقعًا بعيدًا عن الطرح الساذج الذى ينزع الصدام المصرى من كلًا من الطرف الحضارى والجغرافى، ولتتضح إجابة السؤال لماذا مصر؟

اضغط على الاعلان لو أعجبك

محمد صابر

مهندس حر

باحث في علوم التربية وفلسفة التعليم بمركز “بالعقل نبدأ”

دراسات عليا في كلية التربية جامعة المنصورة

حاصل على دورة إعداد معلم (TOT) من BRITCH FOUNDATION TRAINING LICENSE المعتمد من الجهاز المركزي للتنظيم والإدارة

حاصل على دورة في الفلسفة من جامعة إدنبرة البريطانية