مقالات

لماذا تختلف الأيدلوجيات ؟

لماذا تختلف الأيدلوجيات ؟

ما هى الأيدلوجية ؟

كلمة أيدلوجية هى مصطلح حديث له مدلولات كثيرة، وتستخدمه كل فئة للتعبير عن أحد تلك الدلالات المتعددة؛ فمنهم من يستخدمها لتصف مجموعة الأفكار والعقائد التى تؤثر على رؤية حاملها واتجاهه الذهنى، ومنهم من يُضيف إلى الأفكار المشاعر المعبرة عن الشخص.

على سبيل المثال هذا الشخص يحمل أيدلوجية سياسية أى يحمل أفكارًا عميقة وعواطف تتعلق بالمجال السياسى وترتبط بما ينتج عنه من أفعال وآراء وسلوكيات، ومنهم من يستخدمها فى علم الاجتماع للتعبير عن دلالات تخص علم الاجتماع وهكذا…

اضغط على الاعلان لو أعجبك

الأيدلوجيات مصطلح دارج يطرحه كثير من القراء والمثقفون ليُعبروا عن الاتجاه الفكرى بشكل عام، ولهذا فهو يحتاج للتوضيح حينما يُذكر حتى لا تنشأ تعقيدات لا جدوى منها.

فدعونا نتفق على المعنى المقصود فى هذا المقال بكلمة ” أيدلوجية ” حتى نُمهد طريق العقل لفهم المراد. المقصود هنا من الأيدلوجية هى الأفكار العملية التى توجه الشخص لتأييد أو رفض سلوك ما أى هى التى تقع ضمن إطار “ما ينبغى أن يكون”.

كيف تتكون الأيدلوجية ؟

إن لاحظنا شخصًا يبحث عن وظيفة تجلب له المال، وليس أى قدر من المال بل على القدر الكبير منه، فهو الآن صنّف “البحث عن وظيفة تجلب المال الكثير” على أنه الفعل الصحيح، أى “ما ينبغى أن يفعله” حاليًا، هذه هى الأيدلوجية.

من أين أتى هذا الشخص بهذه الأيدلوجية ؟ لأن رؤيته للسعادة تتمثل فى تحصيل المال والقدرة على امتلاك أكبر قدر منه. وهذه الرؤية القاصرة ترتبط برؤيته لمفهوم الإنسان على أنه كائن له احتياجات، وأنه لا سبيل لتلبية هذه الاحتياجات سوى بامتلاك المال.

اضغط على الاعلان لو أعجبك

هو يريد أن يكون سعيدًا (رغبة فطرية)

الإنسان له حاجات مادية لا بد وأن يلبيها ليسعد (رؤية)

الوظيفة الحالية للمال هى الأفضل (أيدلوجية)

إذًا سيبحث عن وظيفة تحقق له المال الوفير (قرار– فعل– سلوك)

الرؤية المادية السابقة تختزل متطلبات وحاجات الإنسان منا فى جانبه المادى أى فيما يمكن إدراكه بالحواس الخمسة من مأكل ومشرب وملمس إلخ… مهملًا الجانب القيمي والأخلاقى والمعرفي لكونه غائبًا عن هذا النوع من الإدراك، وتم إسقاطها على الواقع ليستخلص ما ينبغى فعله ليُحقق مراده وهو السعادة، بمعنى أنه  قرأ الواقع بعدسة هذه الرؤية فتوصل إلى قرارات تُحقق له النتائج المرجوة والشعور بالرضا.

اضغط على الاعلان لو أعجبك

أى أن الأيدلوجية نتجت من رؤية شاملة لطبيعة الحياة وطبيعة الإنسان “ما هو كائن”، ثم نتج عنها سلوك.

إذا للإجابة عن كيفية تشكيل الأيدلوجية لا بد من فهم كيف تشكلت الرؤية (مراعاة للترتيب فالرؤية تسبق الأيدلوجية )؟

كيف تكونت الرؤية الشاملة تلك؟ كيف تشكلت مجموعة الأفكار والمعتقدات التى تفهم من خلالها “ما هو كائن” أو ما هو موجود؟

بالعودة للمثال السابق، ممّ تكونت رؤية الشخص القاصرة والتى تحصر متطلبات الإنسان فى الجانب المادى فقط؟ وهل يمتلك دليلًا على صحة هذه الرؤية أم لا؟ وهل تبنيه لهذه الرؤية نابع من تفكير أم مكتسب مما هو شائع ومنتشر؟

إن كان مكتسبًا من البيئة دون محاولة منه للتفكير فى صوابها من خطئها فهو فى أسر بيئته؛ إن مالوا مال معهم. وهذا النوع هو سبب الشقاء الحقيقي لما فيه من بخس لقيمة الإنسانية وسلب الإنسان أهم ما يملك وهو عقله.

اضغط على الاعلان لو أعجبك

وهو كالقشة فى مهب الريح، أينما اتجه الناس ذهب معهم وكيفما أطاح به الشائع استقر. ونحن فى غنى لبحث خطأ الرؤية فى هذه الحالة.

أما إن كانت الرؤية الخاطئة تلك ناتجة عن تفكير نابع منه، فنستطيع القول أنه أخطأ فى الاستنتاج لانحرافه عن الأسس الصحيحة فى عملية التفكير.

فمثلاً قد يكون استنتج بناءً على نماذج لأناس فى محيطه لديهم المال ويبدوا أنهم سعداء، أو ربما كان استنتاجه ناتجًا عن تجربة مالية أليمة مرّ بها فقادته لاعتبار أن الحل الوحيد فى زوال أى ألم هو توافر المال.

الأمر يتعلق بالمعلومات التى يستقبلها وكيفية التعامل مع هذه المعلومات للتوصل إلى نتائج واستدلالات تتشكل من خلالها الرؤية.

أى أن حدوث أى خطأ فى المعلومات أو فى طريقة ترتيبها وتحليلها سيؤدى إلى رؤية خاطئة.

إذًا فالأيدلوجية الخاطئة تنتج من رؤية خاطئة والتى بدورها كانت نتاج طريقة تفكير خاطئة (استدلال خاطئ) والعكس صحيح.

لماذا تختلف الأيدلوجيات ؟

لا غرابة إذًا عندما نرى خلافات لا حصر لها وجلسات حوارية عاجزة عن الوصول إلى نقطة مشتركة. فإن كانت القاعدة التى ينطلق منها أطراف الحوار مختلفة فمن البديهي أن يظل الاختلاف موصولًا للخطوة التى يعبر فيها كل منهما على “ما ينبغى أن يكون”.

أى أن اختلاف الرؤى يؤدى إلى اختلاف الأيدلوجيات والآراء والنظرة المثلى لما هو قادم.

وأنه عند اختلاف الأيدلوجيات ينبغى أن نُعمّق النظرة لنفهم أصول كل أيدلوجية، فإن كان اختلاف أصول فالعودة واجبة، أما إن كان اختلاف زوايا النظر فيما يجب أن يكون فقط فالتواصل واجب، فإن الرؤى عندما تتوافق يكون اختلاف الأيدلوجيات هو اختلاف تكامل وليس اختلاف تضاد.

فمثلاً عندما تُعقد جلسة للنظر فى وسائل لإصلاح أوضاع المجتمع ويكون أعضاء الجلسة متوافقين فى الرؤية الصحيحة، وفيهم الاقتصادى والسياسى والتربوى والفنى والإعلامى بأيدلوجيات مختلفة للإصلاح، فإنها ضرورية لتكامل هذه الجلسة وللتوصل للمنهج الصحيح الذى يُراعى جميع تلك الجوانب الهامة.

فسنجد الاقتصادى يرى أن الإصلاح يبدأ بإقامة هيكل اقتصادى قوى، والسياسي يطالب بدستور حاكم ونظم تشريعية وتنفيذية فعّالة، بينما التربوى يرى إصلاح المناهج وطرق تدريس ونقل العلم وتنمية مهارات قادة المستقبل فى مقدمة البرنامج الإصلاحى، والإعلامى يُطالب بحُرية نقل الأخبار وشرعية قول الحقيقة، والفنى لا يتنازل عن دوره الفعّال والمؤثر على أفراد المجتمع بجميع فئاته.

طالما الجميع ينطلق من رؤية صحيحة للكون وللإنسان وللحياة، والهدف الأساسى لديهم هو تحقيق العدالة وتطبيع الأخلاق الطيبة والنهوض بإنسان العصر لأقصى درجات رُقيه وتكامله، فسيكون اختلافهم ضروريًا لتكامل هذا البرنامج.

وتواصلهم واجب حتى يتم ترتيب الأولويات وسد الثغرات وتكاتف جميع المحاور لوضع الخطط التسلسلية التى تتناسب مع الوضع الحالي ونقطة الانطلاق لتحقيق الإصلاح الشامل فعلاً.

———-

إدراكنا لسبب اختلاف الأيدلوجيات يوفر علينا كثيرًا من النقاشات العشوائية والمحادثات العبثية والمناظرات الواهنة.

إدراكنا لسبب اختلاف الأيدلوجيات يُجنبنا اليأس من محاولة نقل معرفة ما أو رأى صحيح للآخرين إن كانت قواعدهم مختلفة أو خاطئة، فالأحرى بنا رد الأمر إلى أصوله أولًا حتى يتسنى لنا محاولة جادة للتواصل والبناء الصحيح.

ولا يمكننا إذا تجاهل أهمية البناء الفكرى الصحيح للأطفال قبل الشباب، وللشباب قبل كبار السن، فكلما ازداد الإنسان عمرًا كلما ترسخت قواعده وصَعُب تغييرها أى بات النقاش معه أصعب والخروج بنتيجة إيجابية يتطلب عناء ومشقة تتوقف حدتها على سعة الأفق ودرجة تهذيب النفس.

سيكون الاستماع لتحليلات وآراء القضايا المختلفة أفضل لأن تركيزنا سينصب على فهم رؤية المتحدث أكثر من التركيز فى تفاصيل الأفعال التى يدعو لها والتى تصيبنا أحيانًا بالدوار والتيه.

سيكون الحوار الحضارى ممكنًا والتفاعل الحضارى أقرب وأقرب.

فالبدء إذًا بتفكير منطقى سليم يُساعد على تكوين رؤية سليمة ومن ثم أيدلوجيات واقعية ومتكاملة تنتقل إلى الواقع بأيادى الأفراد وتكاتفهم لتصل إلى أهداف وغايات عظيمة يُحقق من خلالها الفرد دوره ورسالته.

لقراءة المزيد من المقالات يرجى زيارة هذا الرابط.

ندعوكم لزيارة قناة أكاديمية بالعقل نبدأ على اليوتيوب.

 

 

هبة علي

محاضر بمركز بالعقل نبدأ وباحثة في علوم المنطق والفلسفة

مقالات ذات صلة