مقالاتفن وأدب - مقالات

لغز الزمن ، هل سنسافر يوما عبر التاريخ؟

في الفيلم الكوميدي الشهير يسافر عبر الزمن “سمير وشهير وبهير” إلى الماضي، إلى سبعينات القرن العشرين، ليقابلوا المطرب الشهير “عبد الحليم حافظ”، ويقوموا بإعطائه أغنية “قارئة النجان” قبل أن يغنيها هو! فيصبحون هم مصدر الأغنية.

لكن لحظة واحدة، كيف عرفوا هم أصلا بالأغنية؟ أليس لأن “عبد الحليم حافظ” كان قد غناها سابقًا وسمعوها هم؟ من هو مصدر الأغنية الأصلي هنا؟!

 

النظريات المختلفة حول الزمن:

الزمن هو أحد الألغاز الكبرى التي واجهت البشرية عبر التاريخ، واختلفت نظرة الإنسان له عبر العصور، فبين من رأى أنه هو الإله نفسه أو قدر الإله، ومن رأى أنه مخلوق عملاق يحيط بالكون بأكمله لكن الإله خارجه لا يسري عليه الزمن، ومن نظر له كنهر مستمر التغير، ومن اعتبره مجرد وسيلة لقياس تغيرات الأحداث.

اضغط على الاعلان لو أعجبك

وقد رأت بعض الثقافات أن الزمن دوري، يسير في دوائر من تكرار الحوادث، فيبدأ الكون ثم ينتهي ثم يبدأ ويتكرر وهكذا، ورأت أخرى أن الزمن خطّي أي يسير في خط واحد واتجاه واحد.

وفي الفيزياء تعددت الرؤى للزمن أيضًا، فقد رأى نيوتن أنه خلفية لكل التغيرات الفيزيائية وأنه مطلق، بينما ذهبت نسبية أينشتين لكونه نسبيًا واعتبرته بعدا رابعًا للكون، بينما ذهبت فيزياء الكم إلى أنه ليس مكونًا أساسيًا للكون ويمكن تجاهله وتفسير التغيرات في عالمنا المادي بدونه.

 

الرؤية العقلية للزمن:

ورؤية الفلاسفة العقلانيين للزمن تتوافق مع بعض هذه النظريات وتختلف مع بعضها، فعند التأمل في الزمن بروية تتضح لنا حقيقته، فما معنى “اليوم”؟

اليوم هو دوران الأرض حول نفسها دورة واحدة، أي هو مقدار معين من حركة الأرض، ندركه بحلول نهار ثم ليل، وبتقسيم “اليوم” لمقادير أصغر تنتج الساعات والدقائق والثواني.

وبالمثل في “السنة” فهي مقدار حركة الأرض حول الشمس، ندركه بتعاقب الفصول.

 

الزمن صفة لحركة الأجسام وليس جسما:

فالزمن هو مقدار الحركة، وبالتالي هو ليس جسمًا له وجود خارجي كالفرس والجبل، بل هو صفة تلحق بحركة الأجسام، فهو مقدار حركة الأجسام.

بل الحركة نفسها ليست جسمًا له وجود خارجي، بل هي أيضًا صفة تلحق بالأجسام، مثلما تلحقها صفات أخرى كالكثرة والقلة.

 

الزمن نسبي ويمكن قياسه بشكل مطلق:

ولما كان الزمن هو مقدار حركة الجسم، إذن فلكل جسم متحرك زمن خاص به، إلا أنه يمكن أخذ مقدار حركة بعض الأجسام كمعيار تقاس عليه مقادير حركة الأجسام الأخرى، كجعل اليوم والسنة معيارًا نفيس عليه تحركاتنا في حياتنا.

ويمكن اختيار جسم فلكي معين وجعله معيارًا كونيًا نقيس عليه باقي الأزمنة في الكون، ويجب أن يكون لهذا الجسم مواصفات معينة يمكن مناقشتها في موضع آخر، بحيث يصبح معيارًا مطلقًا لباقي الأزمنة في الكون.

 

الزمن لا يسري على الموجودات غير الجسمية:

ولما كان الزمن صفة توصف بها حركة الأجسام المادية؛ فبالتالي إن وجدت موجودات غير مادية وغير جسمية وغير متحركة فإنه لا يوجد لها زمن ولا تتغير.

مثل الإله المنزه عن الجسمية والحركة لأنه منزه عن النقص؛ وبالتالي هو سبحانه لا يحيط به زمن.

ومثل العلوم العقلية السليمة التي لا تتغير بتغير الزمن، فمثلا حاصل جمع “1+1” هي نتيجة ثابتة لا تتغير بتغير الزمن.

 

هل يمكننا السفر عبر الزمن؟

قلنا إن الزمن ليس موجودًا ماديًا جسميًا حقيقيًا، بل صفة لحركة الأجسام، وبالتالي لا يمكننا السفر عبره كما يمكننا مثلا السفر عبر البحر أو الصحراء!

لكن قد نصيغ السؤال بطرق أخرى؛ هل يمكننا بشكل ما أن نعيش الأحداث الماضية وأن نغيرها؟ أو أن نعيش الأحداث المستقبلية الآن؟ أو أن نوجد نحن في الأحداث الماضية أو المستقبلية بدلا من وجودنا هنا والآن؟

 

هل يمكننا تغيير الماضي؟

هل يمكننا منع “هتلر” من حكم ألمانيا؟ لفعل ذلك يجب أن يكون لدينا “هتلر” وألمانيا في الحقبة النازية وأن تكون الأحداث في العالم هي نفسها الأحداث التي رافقت حكم “هتلر” لألمانيا؛ ثم نمنعه من حكمها!

فكيف سنعيد كل هذه الأحداث إلى ما كانت عليه؟ إن وجود الشيء يعتمد على وجود أسبابه، أي أننا يجب أن نوجد كل الأسباب التي أدت لوجود “هتلر” وألمانيا النازية، بل كل الأسباب التي جعلت العالم وقتها على ما هو عليه! بل لو أردنا الدقة فعلينا أن نجعل النجوم والكواكب على نفس الوضع التي كانت عليه وقتها!

فهل نمتلك القدرة على تغيير كل تلك الأسباب لنجعل “هتلر” وألمانيا النازية والعالم كله يعود كما كان؟ بالطبع لا، وتغيير مثل هذه الأسباب يحتاج إلى قوة وقدرة إلهية لا بشرية.

نعم يمكن تصحيح بعض أخطاء الماضي البسيطة، مثل فشلك في امتحان العام الماضي فتذاكر هذا العام وتنجح، لكن هنا أنت لم تلغ الماضي وامتحانه، لقد استفدت من أخطائه ومنعت تكرار نفس النتائج السلبية في الحاضر، لقد نجحت في الامتحان في المرة الثانية وليست الأولى!

 

هل يمكننا جعل المستقبل يحدث الآن؟

بعض الأحداث المستقبلية أسبابها بين أيدينا، فيمكن أن نعجل بها، يمكنك أن تبدأ في البحث عن زوجة الآن بدلًا من أن تبحث عنها العام المقبل!

لكن كثير من الأحداث ليست بأيدينا فلا يمكن أن نغير أسبابها لنجعلها تحدث الآن، مثل حركة الأجرام السماوية، واختيارات الآخرين، وهكذا.

 

إشكالات فلسفية أخرى في السفر عبر الزمن:

هناك إشكاليات أخرى في السفر عبر الزمن، سنتناول هنا اثنين من أهمها.

الإشكالية الأولى هي إشكالية “اجتماع النقيضين”، فبفرض عودة شخص للماضي كأن يسافر لألمانيا النازية في القرن العشرين فيصبح موجودًا حينها، لكن في الواقع هذا الشخص لم يكن موجودًا في ألمانيا النازية في هذا الوقت! وهذا يعني أنه قد أصبح موجودًا وغير موجود في نفس المكان وفي نفس الوقت! وهذا اجتماع نقيضين محال.

إشكالية أخرى وهي مصدر المعلومات والتي تم الإشارة لها في مطلع المقال، فلنفرض أنك قمت بشراء مسرحية “هاملت” لـ “شكسبير” من إحدى المكتبات في العصر الحالي، ثم عدت للماضي قبل أن يكتب “شكسبير” هذه المسرحية، وقمت بإعطائه تلك النسخة، فأعجب بها وقام بكتابتها ونشرها باسمه، لتدور الأحداث حتى تصبح هذه المسرحية موجودة في العصر الحالي حيث تقوم أنت بشرائها، ثم تعود لشكسبير لتعطيها له!

من مصدر المسرحية هنا؟ أنت أم “شكسبير”؟ لقد خرجت المسرحية للوجود دون أن يكون لها موجدًا أو كاتبًا أصيلًا وحقيقيًا! فلا “شكسبير” ابتدعها أول الأمر إذ أنت من أعطيتها له! ولا أنت أو دار النشر ألفتموها إذ أنكم حصلتم عليها نتيجة لكتابة “شكسبير” لها!

تسمى هذه الإشكالية بإشكالية “الدور الباطل” أو “الحلقة المفرغة”، حيث ندور هنا في حلقة مفرغة دون بداية حقيقية أو مصدر حقيقي للمسرحية، أي أنها وجدت دون موجد أو دون سبب، وهذا مستحيل عقليًا وفلسفيًا، إذ إن لكل حادث سبب.

إلى هنا تنتهي جولتنا عبر الزمن، نتمنى أنكم استمتعتم بسفرنا هذا عبر “معضلة الزمن”!

اقرأ أيضا:

هل كل ما نقرؤه في المجلات العلمية صحيح ؟

نظرية التطور؛ بين التاريخ والفلسفة .. أولًا: البحث التاريخي

أحمد عزت

د. أحمد عزت

طبيب بشري

كاتب حر

له عدة مقالات في الصحف

باحث في مجال الفلسفة ومباني الفكر بمركز بالعقل نبدأ للدراسات والأبحاث

صدر له كتاب: فك التشابك بين العقل والنص الديني “نظرة في منهج ابن رشد”

حاصل على دورة في الفلسفة من جامعة إدنبرة البريطانية

حاصل على دورة في الفلسفة القديمة جامعة بنسفاليا