لغتنا مهمة “فيري ماتش” – هل حقا من الممكن أن تأثر علينا لغتنا في طريقة تفكيرنا؟
لغتنا و اللغات الأجنبية
في المشهد المضحك من فيلم “عسل أسود”، يقف “مصري سيد العربي” القادم من “أمريكا”، ليستمع لمدرسة اللغة الأنجليزية وهي تلقن التلاميذ بثقة: “ثانك يو فيري ماتش”، فلا يمتلك إلا أن يتدخل محتجًا غاضبًا، فتعترض المدرسة على اقتحامه “للكيلاس”، وتطلب منه أخيرًا أن يترك “الشاكيت”! بينما ينفجر المشاهد في الضحك: “إنجليزي ده يا مرسي؟, فالمدرسة لم تستخدم لغتنا و لا استطاعت أن تتكلم انجليزي جيد!”.
اللغة وعاء الفكر
تعلم اللغات الأجنبية بشكل سليم هو أمر هام بالتأكيد للاطلاع على هذه الثقافات، إلا أن عدم القدرة على نطق لغتنا الأم بشكل سليم قد يستدعي ضحكًا أكثر، ضحكًا كالبكاء. فهل حقًا الحفاظ على اللغة العربية مهم؟ أم أن دعاة الحفاظ عليها مجموعة من البكّائين على الماضي والرافضين للتطور؟
إننا نشعر بأنفسنا وأحاسيسنا ومشاعرنا، كما ندرك الواقع من حولنا، ونكوّن عنه أفكارًا ورؤى، في حياتنا اليومية، عن الوظيفة والزواج، والمدرسة والشارع. أو أفكارا علمية، كالفيزياء والكيمياء والأحياء، والمنطق والفلسفة والعقائد، والتاريخ والدين، والسياسة والاقتصاد والاجتماع. كما نفكر في الخطط ونتخذ القرارات.
ونحاول أن نعبر عن مشاعرنا وأفكارنا هذه كلها، وننقلها للآخرين، ونستقبل منهم أفكارهم، كما نحاول أن نحفظها لنوصلها لأشخاص بعيدين عنًا مكانيًا، أو نبقيها للمستقبل. فنحتاج في ذلك كله للغة. فاللغة سواء مكتوبة ومسموعة، أو إشارة أو ملموسة (برايل)، هي تعبير عمّا في ذهننا من أفكار ومشاعر، فاللغة هي وعاء الفكر.
واللغة المعقدة ضرورة للإنسان لكي يعبر عن هذا القدر الهائل من الأفكار المتنوعة في حياته، بينما نجدها غائبة في الكائنات الحية الأخرى، وإن وجدت فهي لغة بسيطة طبيعية، للتعبير عن احتياجات ومعان جزئية بسيطة وقليلة، كبعض أصوات المواء المختلفة للقطط.
اللغة في المنهج العقلي
واللغة في المنهج العقلي، هي وجود #وضعي و#اعتباري، أي تنشأ نتيجة وضع الناس واعتبارهم، فتنشأ في التجمعات الإنسانية بأن يتفق مجموعة من الأشخاص على وضع لفظ ما أو كلمة ما، واعتبارها تدل على معنى معين. وكلما كانت للغة قدرة أكبر على إنتاج ألفاظ وكلمات، كان لها القدرة على التعبير عن أفكار ومعان أكثر. فـ اللغة العربية مثلًا من أغزر اللغات مادةً، وبالتالي من أكثرها قدرة على التعبير عن الأفكار والمعاني. فمعجم “لسان العرب” يحتوي على أكثر من ثمانين ألف مادة، بينما قاموس “صموئيل جونسون” الإنجليزي به اثنين وأربعين ألف كلمة فقط، مع كون الأول كتب قبل الثاني بخمسة قرون تقريبًا.
وقد يتغير اتفاق الناس واعتبارهم من وقت لآخر، ومن مكان لآخر، فنجد اللغات متنوعة كثيرة، فلكل نطاق جغرافي لغة أو لهجة. كما اختلفت اللغات أيضًا بمر العصور، فنشأت جديدة كالإنجليزية، واندثرت قديمة كالهيروغليفية، وهكذا. كما تتطور اللغة بسبب الاحتياج للتعبير عن أفكار ومعانٍ جديدة، فتنشأ ألفاظ جديدة. كما تضمر وتضمحل بسبب قلة استخدامها، أو عدم الحاجة للتعبير عن هذه الأفكار بهذه اللغة، أو غياب المعنى والفكرة أنفسهم.
واللغة وسيلة لترابط التجمعات الإنسانية كما سبق، كالأسرة والأهل والأصدقاء والوطن والحضارة، فهي بشكل ما جزء من الوطن والأهل، وغيابها خارج الوطن يؤدي لغربة ووحشة.
علاقة اللغة بالحضارة
وأكبر التجمعات الإنسانية وأحد أكثرها أهمية هي “الحضارات”، ولكل حضارة نتاج من الأفكار والرؤى الخاصة بها، والتي تشكل هويتها وحقيقتها، وهي بشكل خاص رؤاها الاعتقادية، كرؤيتها للإله والكون والإنسان، وللحياة والغاية منها. وبالتالي رؤيتها للطريق الأفضل لتحقيق سعادة الإنسان. وهذا النتاج تحفظه الحضارة بلغتها، وتتمكن من الاطلاع عليه وفهمه والحكم عليه، وتطويره والاستفادة منه، عن طريق هذه اللغة.
فإن غابت هذه اللغة فقدت #الحضارة الاتصال بفكرها ورؤاها وحقيقتها وهويتها. وإذا أرادت حضارة أن تغزو أخرى؛ فبالإضافة لأساليب الغزو العسكري، يوجد #الغزو_الفكري الذي يهاجم الأفكار ويهدم الرؤى. وأحد أهم أركان الغزو الفكري هو ضرب اللغة، لأنه بسقوطها يسقط اتصال الحضارة بأفكارها وحقيقتها وهويتها ومعتقداتها.
ومن طرق هدم اللغة منع استخدامها في تدوين العلوم، واستخدام اللغة الخاصة بالحضارة الغازية، وتسفيه اللغة والسخرية منها، ومن الملتزمين بها وبقواعدها، وإهمال تعليمها.
ولقد تعرضت حضارتنا لهجمة شرسة من الحضارة الغربية على مر القرون السابقة، بألوان مختلفة من الغزو العسكري والفكري، وسعت قوى الاحتلال لتغيير أنظمة التعليم التقليدية، وإلغاء التعليم بـ اللغة العربية في كثير من الكليات، وإهمال وإضعاف المؤسسات التي من شأنها حفظ اللغة، كالأزهر وغيره، ونشر مدارس اللغات وتمييزها.
والحفاظ على لغتنا ضد هذا الهجوم ليس هدفه نزعة قبلية أو عصبية، تنتصر لـ “قومنا” و”لغتنا” حتى وإن كانوا على خطأ. بل هدفه إحياء تراث مذهل من الأفكار والرؤى والعقائد التي يحتاج العالم كله لها اليوم.
العالم غارق فى المادية
فعالم اليوم مظلم بسبب غياب العقل، فقد اتخذ الغرب في تاريخه الحديث منحى معرفيا خطيرا عندما أنكر قدرة العقل على المعرفة، وقصر المعرفة على الحواس فقط، مثلما فعل “بيكون” و”جون لوك” وغيرهم. فانتشرت الرؤى التي لا تعترف بأي وجود غير المادة، فتنكر أو لا تهتم بالإجابة على الأسئلة الوجودية الخاصة بالخالق والكون والغاية من الحياة، وحقيقة الإنسان وسعادته، ولا تهدف إلا للاستزادة من المادة.
وبناء عليه غرق عالم اليوم في أيديولوجيات مادية تعظم اللذات الحيوانية، وتسعى للاستزادة من القوة المادية بأي ثمن، وإن كان قهر الشعوب الضعيفة والتلاعب بمقدراتها، وقهر الإنسانية ذاتها، وعدم المبالاة بالقيم والمبادئ، أو استعمالها بازدواجية لتحقيق مصالح الأقوى. فأبادت الشعوب الأصلية كالهنود الحمر، وأشعلت الحروب العالمية، ودعم النظام العالمي دولًا كإسرائيل، واستخدم التطور المادي لسحق الإنسان نوويًا. وانتشرت الإباحية والشذوذ الجنسي، وتم تقنين المخدرات المذهبة للعقل والمضرة بالجسد في بعض المناطق، واستغلال الدول الفقيرة لزراعتها وترويجها، وانتشرت تجارة الرقيق الأبيض وشبكات الدعارة المبنية على فتيات من دول فقيرة مقهورة، وأشعلت الحروب لكي يبيع تجار السلاح انتاجهم.
وتبدو الحضارة الغربية في اللحظة الراهنة عاجزة عن تخطي هذه الرؤية المادية التي تسببت في دمار كبير لكوكبنا وطبيعته وسكانه من البشر، بل وحتى باقي الكائنات الحية. وحاولت أن تقنع العالم كذبًا أن هذا هو الطريق الوحيد. بينما تمتلك حضارة كحضارتنا إجابات عقلية متوازنة عن الأسئلة الكبرى، إجابات توازن بين المادة والروح، وبين العقل والحس.
لغتنا العربية تستحق
ففي تراثنا العربي يوجد درر نفيسة من أرقى ما وصلت إليه العلوم العقلية من منطق وفلسفة، أفكار ورؤى عقلية برهانية عن الخالق والوجود والإنسان والنفس والحياة، لفلاسفة عظام كالفارابي وابن رشد والغزالي وابن سينا وغيرهم الكثير. مع انفتاح على العلوم المادية التجريبية، جعلنا نقود العالم فيها سنين طويلة، ونعلمها للغرب، فنحن قادرون على قبولها وتطوريها كما فعلنا من قبل.
كما نمتلك في تراثنا العربي النص الديني الأكمل، الوحيد الذي وصل إلينا محفوظا بأكمله بالتواتر، متوافقا مع العقل، حاملا الرسالة الإلهية الخاتمة للبشر، محتويا على الشرائع الضرورية لسعادة الإنسان، من فقه وأخلاق، مخبرا بجزئيات اعتقادية هامة لسعادة الإنسان. هذا النص المعجز الذي حَفظ العربية، وحُفظ بالعربية.
لعله ليس من المبالغة القول بأن البشرية بحاجة ماسة لهذه العلوم والأفكار والرؤى والنصوص، للخروج من مستنقع الواقع المؤلم الذي خلقته المادية الحيوانية، فعاثت في الشرق والغرب فسادا عندما امتلكت القوة، ولم تمتلك معها العقل أو الأخلاق. ولعله من الواضح أن الاتصال بهذا التراث كله، وفهمه فهما حقيقيا، والحكم عليه حكما صحيحا، والانتفاع به؛ لن يتم إلا بـ اللغة العربية.
بلسان ينطق بالفصحى.
اقرأ ايضاً:
لقراءة المزيد من المقالات يرجى زيارة هذا الرابط.
ندعوكم لزيارة قناة أكاديمية بالعقل نبدأ على اليوتيوب