مقالات

لغة العقول

كتب د. أيمن عبد الخالق

 

عندما نتحدث عن العقل،فنحن نتحدث في الواقع عن حقيقة الإنسانية،أو عن الشيء الذي به صار الإنسان إنسانا.

فالإنسان عند الحكماء (حيوان عاقل)،حيث يشترك مع سائر الكائنات الحية في الجسم والنمو والحس والحركة الإرادية،والتي هي كلها من معالم وآثار الحياة المادية العنصرية،بل ربما نجد أنّ كثيرا من الحيوانات تتفوق عليه في جميع هذه الأوصاف،مما يدلّ على أنّ شرف الإنسان وكرامته ليس في تلك الكمالات المادية المشتركة،بل في شيء آخر، به يمتاز عن غيره من الأنواع الحيوانية،ألا وهو العقل، الذي به كرّمه الباري تعالى وفضّله عليها،واستخلفه في الأرض وجعله سيد الكائنات.

اضغط على الاعلان لو أعجبك

وهذا العقل الإنساني هو تلك القوة التي بها يميّز الإنسان الحق من الباطل في الأقوال ،والخير من الشر في الأفعال،وتنطلق منها الإرادة الحرة المعبّرة عن الضمير الإنساني؛لتسوق الإنسان باختياره إلى الفضيلة، وترسم له طريق الكمال والسعادة الحقيقية.

ومع هذه الأهمية البالغة للعقل في حياة الإنسان،فإنه مع بالغ الأسف والأسى صار العقل مهجورا وغريبا بيننا،وأصبحنا نفتقده بالكلية في حياتنا الفردية والاجتماعية،التي هيمنت عليها إدراكاتنا الحسية والخيالية والوهمية،وتحكّمت فيها غرائزنا الحيوانية ،فأصبح الناس لايعوون إلا مايشاهدونه بأعينهم،أويسمعونه بآذانهم،ولايلهثون إلا وراء شهواتهم ورغباتهم المادية،فغاب الحق واندرست الحقيقة بين هذا الركام الهائل من الخرافات الفكرية والظنون والأوهام الحسّية، وضاعت القيم والمبادئ الإلهية والإنسانية،وشاع التفكك الأسري والتحلل الأخلاقي ،وتفشّت الجريمة المنظمة والأمراض الاجتماعية،وتسلط السفهاء والأشرار على مؤسسات المجتمع وأنظمة الحكم،وأضحت مجتمعاتنا البشرية أشبه بالغابات منها بالمجتمعات المدنية المتحضرة.

ولذلك،فقد مسّت الحاجة إلى الرجوع إلى الضمير الإنساني والإصغاء إلى صوت العقل في داخلنا،ولايمكن ذلك إلا بإحياء لغة العقول المعبّرة عنه،والتي نستطيع من خلالها أن نتعرّف على حقيقته وخصائصه وأحكامه،وبها نفكر ونتأمل، ونبني على أساسها رؤيتنا الكونية الواقعية عن الإنسان والحياة والمبدأ والمعاد،ونشيّد عليها صرح قيمنا ومبادئنا الأخلاقية والاجتماعية المنسجمة مع طبيعتنا الإنسانية.

نعم…. فلتكن لغة العقول هي لغة الحوار والتفاهم بيننا من أجل تحكيم العقل في حياتنا،وبناء الحضارة الإنسانية الواقعية التي يسودها العلم والإيمان والفضيلة والتعايش السلمي بين بني البشر،وتتحقق فيها العدالة الاجتماعية والسعادة الحقيقية.

ومن أجل ذلك كله فقد ارتأينا أن نشرع من خلال هذه النافذة العقلية في سلسلة من المقالات الثقافية الفكرية حول لغة العقول الدارجة والمستعملة بين الحكماء في علومهم العقلية؛حتى تتعرف النخب المثقفة في بلداننا ـ والتي يعوّل عليها في عملية الإصلاح والتغيير والنهوض بأمتهاـ على هذه المصطلحات العقلية،وتعتمدها كلغة للحوار الفكري والتفاهم فيما بينها،راجين من الله العلي القدير أن يتحقق برواج هذه اللغة المعرفة العقلية الحقيقية لمثقفينا،والتي ننطلق منها إلى رحاب الإنسانية لنبني الحضارة الشاملة والمدينة الفاضلة.

اضغط على الاعلان لو أعجبك

ولنفتتح بحول الله تعالى وقوته القاموس العقلي للحكماء بالتعرف على معان العقل الإنساني وأقسامه :

العقل النظري والعقل العملي:

أما بحسب الإصطلاح هنا، فقد قسم الحكماء العقل الإنساني منذ قديم الزمان إلى عقل نظري مدرك بذاته للمعاني الكلية المجردة عن المادة وعوارضها (كالإنسانية والعدالة والحرية) وللمعاني الجزئية المتلبسة بالعوارض المادية، بالاستعانة بغيره من الأدوات الحسّية (كهذا الشخص،وهذه الشمس،وهذا القمر)،وإلى عقل عملى مدبر للبدن ولقواه الحيوانية.

وسوف نتعرض لهما بنحو من البيان التفصيلي من أجل أن يترسخ معناهما في الأذهان:

• العقل النظري:

اضغط على الاعلان لو أعجبك

من أجل التعرف على وظيفة العقل النظري ،ينبغي علينا أن نشير أولا إلى مقدمة مختصرة حول مراتب الإدراك عند الإنسان،فنقول:

الإدراك الإنساني له مراتب ثلاث، هي:

ـ المرتبة الأولى ـ مرتبة الإدراك الحسي: حيث يدرك الذهن البشري الصوروالهيئات المتعلقة بالأجسام من الأشكال والألوان والأنغام والطعوم والروائح والحرارة والبرودة.

وكل هذه يدركها الإنسان بواسطة الجوارح الخمس التي هي السمع والبصر والشم والذوق واللمس،والتي تتصل مباشرة أو بواسطة الهواء بالأجسام الخارجية، وتنقل أحوالها للنفس عن طريق الأعصاب والدماغ، ولذلك يكون بقاء الصور الحسية في الذهن مرهونا ببقاء اتصالها بالمحسوس في الخارج، بحيث اذا فقدنا الاتصال بالشيء المحسوس لغيابه بسبب صغره او بُعده مثلا او لفقدان الة الحس فقدنا امكانية ادراكه حسا.

ولكن علينا أن نعلم أنّ دائرة إدراك الحس إنما تكون فى حريم العوارض المادية فقط،و،والتى تتصل بها، كما ثبت فى الفلسفة،ولايمكن أن تتعدى حدودها إلى باطن الطبيعة فضلا عما وراءها،وهو المسمى بعالم الغيب

اضغط على الاعلان لو أعجبك

ـ المرتبة الثانية ـ مرتبة الإدراك الخيالي : في هذه المرتبة يدرك الذهن أيضا الصوروالهيئات الجسمية التي سبق وأن أدركها الحس وزالت عن مرتبة الحس غير أنها حفظت في الخيال، فله أن يستدعيها ويشاهدها متى شاء ذلك ،حتى بعد غيبة المحسوس، وانقطاع الاتصال معه، وهذا هو الذي يميزه عن الإدراك الحسي.

ويعتمد الإنسان على الخيال فى مجال الأدب والدراما والرسم والموسيقى ،وسائر الفنون القريبة من الحس ،و لا مدخلية له أيضا في العلوم الفكرية العقلية الإنسانية

المرتبة الثالثة ـ مرتبة الإدراك الوهمي: وهي المرتبة التي تَدرك فيها النفس المعاني غير المحسوسة الموجودة في المحسوسات المادية إدراكاً جزئياً متعلقاً بهذه المحسوسات وبالقياس إليها،مثل حب الأم والأب،وعداوة الذئب للأغنام

المرتبة الرابعة ـ مرتبة الإدراك العقلي: للمعاني العامة الكلية المجردة عن التجسم والعوارض الجسمانية كمعنى العدالة والحرية والإنسانية

وهذه المعاني الكلية تسمى بالمعقولات، بإزاء المحسوسات والمتخيلات، وهذه المرتبة الرابعة تسمى بالتعقل،وهي التي تميز الإنسان عن سائر الحيوانات.

والعقل النظري هو المدرك بالحقيقة لكل هذه الأشياء،إلا أنه يدرك المعاني الكلية بذاته،والمعاني الجزئية بالاستعانة بالحس والخيال

وللعقل النظري وظائف متعددة من التحليل والتركيب ، ترجع في مجملها إلى مايسمى بعملية التفكير،والتي يكتسب من خلالها الإنسان الألوان المختلفة من العلم والمعرفة،والتي سوف نفرد لها بحثا مستقلا في قاموسنا العقلي في المستقبل إن شاء الله تعالى.

وينبغي أن نعلم أنّ تقوية العقل النظري وتكميله، إنما يكون بالتعليم،لاسيما تعلّم العلوم العقلية التي تهذب الذهن،وتشذّب الفكر،والتي يقبع المنطق العقلي والفلسفة الإلهية على رأسها

وكمال العقل النظري في هذه الحياة ،إنما يكمن في تحصيل الرؤية الكونية الواقعية والأيديولوجية الصحيحة عن الإنسان والعالم ،وهما اللذان يشكلان الركنين الأساسيين في الفكر البشري،وبانعكاسهما على سلوك الإنسان يعينان مصير الإنسان في هذه الحياة الدنيا وفي الآخرة.

• العقل العملي:

اما العقل العملي،فبيان وظيفته المتعلقة بتدبير البدن تحتاج إلى مقدمة تمهيدية:

فنقول:إنّ للنفس قوتين حيوانيتين لحفظ البدن،الذي هو آلة استكمال النفس،إحداهما لجلب النفع له وتسمى بالقوة الشهوية،والأخرى لدفع الضررعنه ،وتسمى بالقوة الغضبية،ولكونهما غير عاقلتين ،ويعملان بطبعهما دون أي ضوابط أو قوانين عقلية،فقد وضعهما الباري تعالى بمقتضى لطفه وعنايته تحت سيطرة العقل العملي؛ليقوم بتوجيههما وترشيد أفعالهما في حفظ البدن بنحو لاينافي أحكام العقل النظري.

ومقدرة العقل العملي على إخضاع تلك القوتين له ،إنما يتوقف على الملكات الأخلاقية المكتسبة بالأفعال الاختيارية،فالملكات الفاضلة تقوّيه عليهما وتثبّت حاكميته ،والملكات الرذيلة تضعفه،وتخضعه لهما،فيصبح أسيرا ،بعد أن كان أميرا.

وكمال العقل العملي في تحصيل ملكة العدالة التى تمكنه من السيطرة على تلك القوتين،وإنما يتحقق ذلك عن طريق التربية العقلية والشرعية،كما هو مبيّن في الحكمة العملية .

فقد تبيّن مما تقدم ،أن فلسفة التعليم والتربية إنما تتجلى في تقوية وتكميل العقل الإنساني بقوتيه النظرية والعملية،والذي هو الغاية الحقيقية من وجود الإنسان في هذا الكون.

 

مقالات ذات صلة