لست سيسيفيوس
لست سيسيفيوس
أعاود الكتابة مرة أخرى بعد أن انقطعت فترة، أشعر بالتيه هنا والحيرة الشديدة. لقد امتزجت بداخلي مشاعر كثيرة متخبطة في هذه الفترة، وفي ظل كل هذه الرياح المتقلبة بين الفرح والحزن والأمل واليأس والحركة والكسل والحب والكره، بقي شروق الشمس وغروبها الشيء الوحيد الذي يطمئنني قليلا. شعرت مع توالي الأيام أن المعركة تمر وإن كان مرورها صعبا لكنها في النهاية تمر، ثم تأتي المعركة الجديدة ثم التي تليها ثم التي تليها. هكذا هي الأيام صندوق مغلق من المفاجئات، بعضها جيد والبعض الآخر سيء. قد يدفعك الخوف واليأس والاكتئاب في لحظة لأن تفكر في التوقف عن فتح الصندوق ولو لمرة واحدة، لكن شيئان يمنعانك من ذلك، الأول هو الفضول القوي الذي تشعر نحو كل ما هو غامض ومجهول، فهذه فطرة الإنسان، أو كما قال سقراط “إن التعجب هو طبع الفيلسوف، وبه تبدأ الفلسفة”.
الأمر الآخر هو معرفتك لحقيقة الصندوق، فأنت مجبر على أن تعيش اليوم طالما أنك لن تقدم على الانتحار، فبطريقة ملتوية قليلة بعض الشيء أنت بالفعل داخل الصندوق، ولا يجب عليك أن تفتح أي شيء فقط عليك أن تضيء النور على الجزء الذي ترغب كشف غموضه، فلو اخترت ألا تفعل أي شيء في ذلك اليوم، فأنت قد اخترت بالفعل أن تفعل شيئا، وهو أن تتوقف عن فعل أي شيء آخر وهو أحد الاختيارات المطروحة، ربما ليس أكثرها إثارة ولكنه يظل أحد هذه الاختيارات.
الصورة 1: أسطورة صندوق بندورا
اعتاد مفكرو الغرب أن يكثروا من الشكوى والبكاء والعويل من هذا الصراع الذي يبدو أنه لا ينتهي، شبهها ألبرت كامو بأسطورة سيسيفيوس الذي حاول أن يخدع إله الموت “هاديس” وكبل قدميه وهو نائم، فلم يستطع أن يميت الناس، فأصبحوا مخلدين كآلهة الأوليمب. وكعقاب له على هذه الفعلة كان عليه أن يحمل في فجر كل يوم صخرة ليدفعها إلى أعلى تلة مرتفعة ليراها تسقط أمامه مرة أخرى للأسفل عند نهاية اليوم، لينزل إليها ويعاود الكرة من جديد في حلقة مفرغة من الصراع العدمي مع اليوم أو الصخرة أو الصندوق الذي نعيشه.
الصورة 2: سيسيفيوس والإنسان المعاصر … كرة من المال
كانت هذه المعاناة، معاناة سيسيفيوس هي إسقاط كامو على الأنسان بشكل عام وربما الإنسان المعاصر بشكل خاص، لا سيما بعد آلام وفجائع الحربين العالميتين اللّتين فتكتا بالمجتمعات وشردت الأسر ودمرت المدن والقرى وتركتا خلفهما ملايين القتلى، فلا يدري المقتول فيهم لم قتل ولا يدري القاتل لم قتل. رأى مفكرو تلك الحقبة عدمية الصراع الإنساني مع الوجود، كان ذئاب هذا التوجه الفكري الوجودي أو العدمي هما سارتر وألبرت كامو على الترتيب على أنقاض ما تركه من قبلهم بفترة الكاتب العنيف نيتشة، هذه القوالب الفكرية أنتجت ما يعرف بحقبة ما بعد الحداثة. فبينما رأي سارتر أن الوجود سابق على الماهية (الوجودية) وأن للإنسان الحرية في تشكيل وتغيير وتطوير ماهيته، رأي كامو أن الصراع العدمي (صراع سيسيفيوس) لا حل له غير في ثلاثة اختيارات: الانتحار أوالتدين أو التحدي.
رأى المفكرون الغربيون أن الصراعات الأخيرة التي تمخضت عنها أعنف فترات الحروب بين القرن الثامن عشر وأواسط القرن العشرين (1700-1950) نتجت عن وضع كل توجه فكري لنموذج مثالي للحياة، يحاول إقصاء وإثبات فشل سائر النماذج الأخرى (إن لم تكن معنا فأنت ضدنا ولا خيار ثالث)، فنتجت عنها المعسكرات الليبرالية والإمبريالية الرأسمالية والقومية الاشتراكية (النازية) والماركسية الشيوعية وبناتها اللينينية والستالينية والماوية. كلها معسكرات نظرت إلى كوكب الأرض من خلال منظور واحد مشترك وهو المنظور المادي، أن هذا الكوكب موجود ليسيطر عليه الإنسان ويستمتع به ويرتديه كما ترتدي المرأة الأرستقراطية فراء الدب أو الثعلب أو الفقمة. ولكن مع وحدة منظورهم المادي نحو الكوكب كوجبة شهية يجب التهام اكبر قدر ممكن منها، اختلفت الأراء حول كيفية تحضير هذه الوجبة، فهناك من أفتى بالسلق، وهناك من أرادها مشوية، وآخر يريدها مقلية في الزيت، وذاك يريدها مطهوة على البخار!
الصورة 3: المادية والكوكب؛ العلاقة الاستهلاكية البحتة
وهكذا اتفقت الحيوانات المفترسة تلك على الفريسة لكن تنازعوا عند الطهو، نزاع تمخض عنه صراعات وحروب ومعارك مؤلمة حاول فيها كل طرف إلحاق أكبر قدر ممكن من الأذى بالأطراف الاخرى، أمر وصل في بعض الأحيان لحد الإبادة النووية مرتين كما حدث في اليابان، أو بحرق مدن بالكامل بقنابل الفوسفور كما حدث في قصف دريزدن ومدن ألمانية أخرى فيما لقب بالقصف الإحراقي “Fire Bombing” أو بتدمير دول بالكامل كما حدث في الحرب الفيتنامية وجرائم أمريكا ضد الإنسانية هناك معروفة وموثقة.
الصورة 4: خلال حرب فيتنام ألقت أمريكا “الديمقراطية” أكثر من 7 مليون طن من المتفجرات على فيتنام ولاوس وكمبوديا. هذه الكمية أكثر من ضعف الكمية التي ألقيت على أوروبا وآسيا معا خلال الحرب العالمية الثانية!!! (راجع هذا الرابط)
هنا ظهر التحليل العجيب من مفكري الغرب، أن الخطأ ليس في فكرة دون أخرى، فلم يحاولوا التمييز بين منظومة فكرية وأخرى بمقارنة العيوب والمميزات، ولكن ربطوا بين فظائع الحروب وبين التفكير ككل أو الطرح الحضاري الذي تحاول أي أمة أن تقدمه كمشروع إنساني من الأصل. فجاءت الوجودية بطرح أنه لا يوجد تصميم افتراضي مثالي يجب علينا السعي لتحقيقه، لا توجد ماهيات (تعريف للوجود) سابق للوجود نفسه، فالوجود هو الذي يسبق الماهية، فلا تقول أن ماهيتي حيوان ناطق أو حيوان اقتصادي أو حيوان متطور، لا تصادر على الهوية، بل دعني أنا أشكل هويتي وماهيتي كما أحب وكما أشاء. ولا يوجد ماهية أفضل أو أسوأ من الأخرى، فقط يوجد تنوع وتبدل وتطور في الماهيات بما يتوافق مع ميول ورغبات كل إنسان، فالذي يملي علي حبي أو كرهي لهوية معينة هو وجودي ورغباتي أنا فقط لا أي معيار آخر مثالي ما ورائي يحاول أن يحبسني في تصورات أشخاص آخرين عمّا يجب وما لا يجب أن يكون.
الصورة 5: الإنسان وصراع الهوية، أي الأقنعة سترتدي اليوم؟
طبعا نقطة جانبية هامة هنا وكنقد منطقي للفكرة، فإن الوجودي وإن كان يدعي بأن الأفكار كلها سواء ولا يوجد فكرة أفضل من أخرى، فإنه وفي نفس الوقت يناقض فكرته عندما يدعي أن هذا الأسلوب “الوجودية” هو الأفضل في التعامل مع الحياة. فلو أنه لا توجد فكرة أفضل من فكرة في فهم الحياة فإن الوجودية أصبحت فكرة ضمن أفكار كثيرة أخرى عن الحياة ولا توجد بينهم فكرة أفضل بما فيها الوجودية، بل وتشمل اللائحة أيضا الأفكار التطرفية والإرهابية والتي نرى فظائعها اليوم في دول العالم الإسلامي بعد ظهور داعش وأخواتها. فلا يمكن للوجودية أن تدعي أنها الفكرة الأفضل لفهم الحياة لأن هناك تناقض داخلي بين النظرية ونتائجها. ولا يمكن لأي نظرية (إن جاز أن نسميها نظرية) تدعي نسبية الحقيقة أو عدمية الوجود أو نسبية القيم الأخلاقية كالحق والعدل والخير والجمال أن لا تقع في هذا التناقض المنطقي الذي ينسف “النظرية” من الأصل.
الصورة 6:رسم توضيحي للتناقض الداخلي في الوجودية ونظريات النسبية المعرفية والأخلاقية عامة.
أما “كامو” فلقد كان أكثر جرأة في التعامل مع معضلة صراع سيسيفيوس، لقد رأي أن الانتحار هو مهرب الجبناء الذين لا يستطيعون تحمل العقوبة التي نعاقب بها على رغبتنا في الحرية. فشخّص أن الإله (إذا كان موجود) فهو وجود سادي! كان يشعر بالملل فخلق البشر ليستمتع بالصراعات بينهم، كما تستمتع أنت بمشاهدة المصارعة أو وثائقيا للحرب العالمية الثانية أو أحد أفلام الحركة! فهذا الإله قد أوجدنا لينفس عن ملله بمتابعة صراعاتنا المستمرة ونحن ندحرج الحجر كل يوم لنراه يسقط مرة أخرى لقاع الوادي في آخر اليوم، ولذلك فإن الانتحار هو مجرد استسلام في هذ اللعبة التي يلعبها معنا الإله!
أما مخرج المغفلين والعاطفيين فهو مخرج التدين! وهو أن البعض يرفضون أن تكون كل هذه الحياة بلا هدف، فيخلقون –كما يرى كامو- لأنفسهم الهدف بالاعتقاد برومانسية فارغة بأن الإله له غاية أخرى عير التسلية من وراء كل هذه المسرحية ويربط نفسه بهذه الغاية ويعمل على تحقيقها. يقول كامو بأن هؤلاء مغفلين لأنهم فقط يأخذون مخدر (أو كما تقول الشيوعية أن الدين أفيون الشعوب) لينسيهم آلام صراع الحياة لكنهم لا يواجهون هذا الصراع.
الصورة 7: الكل يبحث عن الحرية، ولكن السؤال الذي لا نجد له جوابا: ما هو القيد الذي نحاول كسره؟
ولذلك فإن كامو يفضل الاختيار الثالث، وهو التحدي. يقول كامو إن سيسيفيوس سينتصر على الألهة التي تعاقبه عندما ينغمس وينجرف في صراعه مع الصخرة لدرجة استمتاعه بدفع الصخرة وتكرار الأمر لما لا نهاية حتى يدركه الموت. ويرى أن هذا هو اختيار الشجعان – في رأيه، فهو اختيار تقبل واحتضان عدمية الصراع الإنساني على الرغم من كل الأشواك التي تغلف ذلك الصراع وكونه هو الألم بذاته، إلا أن تقبل سيسيفيوس لهذا الأمر واستمتاعه به هو ما سيكون بمثابة الرد الأقوى على الألهة المتعجرفة وإفساد لخطتها التي صاغوها كعذاب سيسيفيوس لا كراحة ومتعة له!
الصورة 8: إختيار احتضان العدمية وتقبلها، سيسفيوس يطمئن الأم ويقول لها “لا تقلقي، فالأمر يصبح أسهل بكثير المرة الثانية”
كلمات عزفت على أوتار تميل نحوها المجتمعات الغربية التي لا تريد المزيد من القيود على طريقة حياتها. فطبقا للوجودية لا يوجد قالب محدد للإنسان، ذكر،أو أنثى، مدمن، أو متدين أو ملحد أو اشتراكي أو رأسمالي أو ليبرالي أو رياضي أو بدين أو عضو مافيا أو مهرب مخدرات أو تاجر سلاح أو نباتي أو…إلخ، إن هذه الاختيارات ليست على قائمة أفضل أو أسوأ الماهيات، بل هي على قائمة الهويات المتاحة وأنت من تختار الجيد أو الأسوأ بالنسبة لك. فأصبحت الهويات كمثل الملابس تباع وتشترى في محلات الهوية كمثل عمليات ومساحيق التجميل في عالم التمثيل والغناء، فهي تعطي لكل ممثل أو مغني الجلد الخارجي أو القناع الذي يعبر عن هويته التي يحاول تقمصها دون فرق بين أن تكون هوية راقية أو متسافلة، المهم أن يستمر العرض. أما طبقا للعدمية فلا يوجد معنى للحياة أصلا لكي تحارب من أجله أو تدافع عنه، فلماذا أصلا القيود أو القواعد؟!
الصورة 9: توضيح للفرق بين العدمية (على اليمين) والوجودية (على اليسار)، فالعدمية تنزع المعنى من الحياة بينما الوجودية تقول أن الوجود سابق للماهية
وهكذا أصبحت الحياة بالنسبة لكثيرين في القرن الواحد والعشرين، قرن صراع الهويات ولكن على المقياس الفردي فقط، إن أقوى الحروب بين هؤلاء الأفراد اليوم لن تتعدى كونها مباراة مصارعة الديوك، مجرد بعض الريش الملون والأصوات المرتفعة والحركات العنيفة ثم الكثير من الألم والدماء، ثم لا شيء. مجرد ذبابة أخرى من ذبابات الإنسانية سحقت تحت ضغط مجلة الوجودية الإنسانية. فلا أثمر هذا الموت عن أي تغيير حقيقي أو دفاع جوهري عن قضية إنسانية هامة كمجاعات أفريقيا أو مظلومية شعب فلسطين أو جرائم بورما في حق مسلمي الروهينجا، ولا وجدت هذه الذبابة الإجابة أو الراحة أو السعادة (متعة سيسيفيوس) التي كانت تسعى لها منذ البداية ولو حتى على المعيار المادي فقط.
ما الذي جعلني أكتب هذا الكلام اليوم؟ بصراحة لا أعرف بالتحديد، ربما هو صراع في داخلي بين من فُتن في أيام صباه بالفتنة الوجودية أو العدمية التي تقدم لنا وبشكل باطني في لفافات برامج التلفاز وكرتون الأطفال (ربما اليوم أصبح كارتون الكبار). ربما جربت الحياة لبضعة أيام في وادي سيسيفيوس، وحاولت أن أستمتع بالمعاناة كما تقول العدمية ولكني شعرت بالاشمئزاز والنفور من هذه الحياة بعد فترة. واشتاقت نفسي المدفوعة بحب التحدي الحقيقي المنتج المثمر -لا التحدي العدمي المتبجح على الإله- لأن أعود لتلك الأيام التي كنت أصارع فيها أفكاري وأنقحها وأبنى عليها القرارات وأسعى في تنفيذها وأقيس النجاح وأقيم الفشل وأعيد الدراسة ثم أعيد التجربة لأسجل الفرق بين كل مرة والمرات التي سبقتها لكي أتقن في النهاية نقطة صغيرة أو مهارة جزئية بين كل المهارات والقدرات المتاحة للإنسانية في وسط مجتمع أحلم به من المجتهدين والمصارعين الحقيقيين مثلي والذين يتقن كل فرد منهم ولو لونا واحدا فقط من ألوان الطيف. ثم نجتمع ونتحد أمام مرآة الإنسانية المصقولة لكي تندمج ألواننا ومهارتنا في ضوء أبيض ناصع ظاهر البياض وفياض بالجمال والعدل والحق والخير ليس للجنس الآري فقط كما تدعي النازية ولا للبروليتاريا فقط كما تدعي الشيوعية والاشتراكية وليس للأغنياء والارستقراطيين فقط كما تدعي الامبريالية والرأسمالية المتوحشة. ولكن الخير والعدل والحق والجمال للإنسان بكل ما هو به إنسان من عقل وجسد.
لقراءة المزيد من المقالات يرجى زيارة هذا الرابط.
ندعوكم لزيارة قناة أكاديمية بالعقل نبدأ على اليوتيوب.