مقالات

هي اللحظات العابرة، لما لم نعد نكترث لأشياء صغيرة لكن جميلة؟

إحدى اللحظات

ها قد مرت بي لحظة أخرى من تلك اللحظات التي أكلمكم عنها، كان السير من المنزل للمحطة طويلا شاقا ولكن ها أنا ذا قد وصلت، لا أعلم كيف ولكني وصلت، وأستعد لأركب في رحلة جديدة ربما ستزورني فيها لحظة أخرى من تلك اللحظات العابرة للزمن التي صرت أعتادها بل وأعشقها وأنتظرها بشغف. فإن الحياة بدون تفكير وتأمل، هي حياة لا تستحق أن تعاش.

أسير في الشارع لأن السير أفضل عندي من الحبس الانفرادي في زنزانة الزجاج والحديد التي تعزلني عن نبض الناس وحركاتهم. أبحث عن المجموعة والانخراط في المجتمع بعد أن أرقت الوحدة نومي وأطالت من لياليّ الحزينة، ويبتهج قلبي عند رؤية الناس في الصباح، كل يسعى في طريقه نحو ما يعتقد أنه سيخفف عنه ألم وضغط هذه الحياة التي تدور بنا كما يدور الرحى بحب الشعير.

توقفنا في هذا الصراع عن الالتفات لتلك الأمور الصغيرة التي أصبح مجتمعنا يطلق عليها “السخيفة” و”التافهة”. لم نعد نتعجب من زهرة الصباح وهي تفتح أوراقها وتلقي التحية على شمس الضحى. لم نعد نكترث لأصوات العصافير في الصباح أو لضحكة الطفل الصغير الذي سُرَّ سروره؛ لأن والده قد ابتاع له قطعة الحلوى التي يحبها وهما في طريقهما للمدرسة قبل أن يودعه والده ليذهب لعمله.

انسحاق العواطف

في واقع انسحقت فيه العواطف مع الطموح والآمال لم نعد نرى إلا الصورة “النيجاتيف” لفيلم الحياة والذي جرد كل الوجود من ألوانه ليترك لنا انطباعات منزوعة الطعم واللون والرائحة عن وجودنا تماما مثل ثمرة الفراولة المعدلة وراثيا، كبيرة الحجم، باهتة اللون ذات اصفرار أو اخضرار في آخرها لأنها لم تنضج بشكل كامل، ماسخة الطعم، قليلة العسل، ذات ألياف كثيرة. .

اضغط على الاعلان لو أعجبك

لم نعد نأكلها لأنها فاكهة تفكه عن النفس، لكن لأنها جزء من العلف اليومي الذي يجب أن نلتهمه لكي نملك القوة، لكي ندير عجلة الرحى الذي يدور ليسحق أرواحنا الرقيقة، هذا إن امتلكنا ثمن هذا العلف. أو كما تقول الأبيات:

وقد خلت أني سيد أحكم الأمور… فأفقت لنفسي مكبلا في أسر الهموم

أدور كالثور في الرحى عاصب العيون… فأنا الثور والقمح والرحى الطحون

بعض تلك “التفاهات” تمر بي كما تمر بغيري، فلا أشعر بها ولا أكترث. أما البعض الآخر فيحدث في نفسي أثرا بالغا تتوقف معه كل الساعات عن الدقدقة وكل المحركات عن الطنين. إنها تلك اللحظات التي تأسرك وأنت تركب “المترو” معتقدا أن تسعة محطات هي مشوار طويل، لتفاجأ بأنك وصلت قبل حتى أن تركب، إنها تلك اللحظات العابرة للزمان والمكان وللوجود الصلب القاسي الذي نعايشه.

هي تلك اللحظات التي تخاطب في داخلك ذلك الطفل الصغير الضاحك، البريء، المفعم بالأمل والذي لم تدخل لطيات فكره ولا لصفحات قاموسه كلمات المستحيل أو الحدود أو الحواجز. هذا الطفل الذي إذا أراد أن يكون طيارا استطاع أن يحول الصندوق “الكرتون” لطائرة، وإن أراد أن يصبح فارسا، حول المقشة لحصان جامح والمسطرة لسيف بتار، وإن أراد أن يكون رساما حول قلمه الجاف لريشة رسم.

اضغط على الاعلان لو أعجبك

جاءت اللحظات

ربما تكون تلك الأحاسيس هي التي عذبت وجدان الغرب فذهب للعدمية والوجودية (فكرة الوجود قبل الماهية) كمحاولة واهية ليشعر نفسه أنه مازال قادرا على الإنجاز. هذا الكيان الغربي الذي قد انطلق في بداياته بطموح جبارة، فوجد نفسه مع كثرة الأخطاء والمشاكل مكبلا مثله مثل غيره ممن لم يسترشد في درب الحياة بنور يهديه.

فأثار ذلك في نفسه الغضب، إنه نفس الغضب والنفس الحسرة التي تنتابك في الثلاثين حينما تدرك أنك لم تعد كما كنت في العشرين، أو في الأربعين كما كنت في الثلاثين. ربما نغضب لأن الوقت يمر من بين أيدينا كالماء من الصنبور، لا يعود مرة أخرى بل يذهب في حفرة عميقة بعد أن يجرف وينحت في أجسادنا وأنفسنا فيستنزفها ببطئ حتى لا يبقى منها شيئا.

أتخيل نفسي وأنا شاب في مقتبل الثلاثين بين ضحكات الطفل خلفي والتي تدفعني نحو الأحلام والتغيير وبين صرخات الشيخوخة أمامي وهي تحذرني من عقبات اختياراتي. ترى ماذا سأختار؟ وكيف أختار؟ فأنا لا أعرف كل شيء، ولو عرفت كل شيء ما احتجت للاختيار. إنه ذلك الغموض الجزئي الذي يخفى عنك بعض الأمر ويظهر لك بعضه، ذلك الإغراء الذي تغريك به الحياة لتشعرك بأنك المسيطر عليها وأنك تستطيع أن تحظى بها، لتفاجأ بالواقع الرهيب والمؤلم الذي كانت تخفيه عنك في ذلك الغموض.

نقطة الاتزان المطلوبة

ولكن لولا ذلك الغموض لما كانت منك المجازفة ولا وجدت في قلبك روح المنافسة والتحدي. ولكن المجازفة بلا تعقل وحكمة يخرج الأمر عن نور الشجاعة ويدخل في ظلمة التهور. لا، أنا لا أريد أن أموت في اصفرار الجبن والرهبة، ولكنى أخشى على نفسي من آلام الاندفاع الثائر والهلاك الذي يتبعه. أنا كالسيف القاطع الذي يريد أن يقطع بنصله كل القيود، ولكن إن قطعت كل الخيوط فبماذا أتشبث؟

أحاول التفكير في الحل، أحاول الوصول لذلك الخط الرقيق الفاصل بين طرفي الإفراط والتفريط في سلوكياتي وأخلاقي… أحلل وأفكر وأحاول التعمق أكثر في ثنايا عقلي لأصل لتلك الفلسفة السامية أو المدينة الفاضلة التي تكلم عنها أفلاطون أو النسبة الذهبية التي كان يبحث عنها “فيثاغورس” والتي تنهي معاناتي في هذه الحياة، لكن فجأة يقطع حبل أفكاري صوت “المترو” الذي وصل لتوِّه للمحطة.

اضغط على الاعلان لو أعجبك

ها قد مرت بي لحظة أخرى من تلك اللحظات التي أكلمكم عنها، كان السير من المنزل للمحطة طويلا شاقا ولكن ها أنا ذا قد وصلت، لا أعلم كيف ولكني وصلت، وأستعد لأركب في رحلة جديدة ربما ستزورني فيها لحظة أخرى من تلك اللحظات العابرة للزمن التي صرت أعتادها بل وأعشقها وأنتظرها بشغف. فإن الحياة بدون تفكير وتأمل، هي حياة لا تستحق أن تعاش.

اقرأ أيضا:

 لم أجد السعادة إلا في عيون البسطاء .. ما علاقة البساطة بالسعادة؟ وكيف نسعد؟

عندما نتآكل من الداخل.. ماذا يفعل بنا الاكتئاب ؟

 أزمة العدالة والخير و الشر.. ألن نتمتع بعالم خالٍ من الشرور ؟

اضغط على الاعلان لو أعجبك

 

لقراءة المزيد من المقالات يرجى زيارة هذا الرابط.

ندعوكم لزيارة قناة أكاديمية بالعقل نبدأ على اليوتيوب.

حسن مصطفى

مدرس مساعد في كلية الهندسة/جامعة الإسكندرية

كاتب حر

باحث في علوم المنطق والتفكير العلمي بمركز”بالعقل نبدأ للدراسات والأبحاث”

صدر له كتاب: تعرف على المنطق الرياضي

حاصل على دورة في مبادئ الاقتصاد الجزئي، جامعة إلينوي.

مقالات ذات صلة