مقالاتفن وأدب - مقالات

لا يسألون

أقبلت روائح الشهر الكريم لتعبق كل الأجواء، الشارع البسيط أصبح كخلية نحل منذ مساء الأمس، الشباب والصبيان يتعالى صياحهم المشترك مع جهدهم الدؤوب لنشر البهجة وتركيب الزينة الملونة والمضيئة هنا وهناك،

المتاجر التي تراص أمامها الكثير من البضائع المرتبطة بمأكل ومشرب ما بعد الفطور، الأمهات اللاتي يأتين محملات بكثير من البضائع التي لا أدري لمَ يجب الاستكثار منها مع ظهور هلال الشهر الفضيل.

انشغلتُ أنا باستخراج الفوانيس القديمة التي قد تعطل أحدها وانكسر جانب الآخر، وبكل صبر وثبات أخذت في توصيل الدوائر الكهربائية لذلك المتعطل، وبنفس بطاريات ريموت التلفاز جربته ولمعت عيناي بقوة عندما اشتعلت مصابيحه الملونة،

الآن سيرضى عني عمرو بقوة عندما أمنحه إياه وكأنه فانوس جديد، وبالتالي لن يشعر بأنه يفتقر إلى ما بيد أقرانه، وبنفس الصبر منحت آية الفانوس الآخر بعد إصلاح ما تكسر وتغطية عيبه الظاهر ببعض اللاصقات الملونة.

اضغط على الاعلان لو أعجبك

كانت قضية الفوانيس هذه أهون وأبسط ما نعاني منه، فبعد وفاة حسن منذ عام ونصف العام على إثر حادث سير، منذ ذلك الحين وانقلبت حياتنا رأسًا على عقب، فجأة تبدل الحال من أقصى اليمين إلى منتهى اليسار.

لم أدرك في حياتي معنى الحديث النبوي الشريف (اغتنم غناك قبل فقرك) بمثل ما أوقن به الآن، كان حسن يغنيني عن أية أثقال أو أحمال أو مسؤولية في حياتي، كان هو المحرك الرئيسي لكل شيء، هو المسؤول المالي والاجتماعي والعاطفي لنا جميعًا،

عمله في إحدى الشركات الكبرى بالقطاع الخاص كان يمنحنا المصدر المالي الكافي تمامًا لتلبية كل مطالبنا الأساسية مع بعض الرفاهيات التي لم يكن يبخل بها علينا، قلبه الطيب كان يغمرنا جميعًا بالمحبة ويحتوينا بداخله، نشاطه الجم كان يشعلنا معه كخلية نحل متعاونة في كل شؤون حياتنا بدءًا من العمل بالمطبخ إلى تنظيف الشقة حتى الذهاب للتسوق، فتربت لدينا روح المشاركة كبارًا وصغارًا في كل شيء.

فجأة توقف القلب الكبير، وارتمينا خارجه على رصيف الواقع الأليم الذي لم نكن ندري شيئًا عن مدى قسوته، لم يكن لديَّ مصدر دخل، والمال القليل الذي يأتينا من شركته لم يكن يغطي حتى الأساسيات، فاجتهدت في تدبيره لرتق كل الثقوب التي نشأت عن هذه الهزة الاقتصادية الكبيرة،

حاولت العمل كثيرًا في أي وظيفة تتناسب مع مؤهلي ولا تهين كرامتي، وللأسف فشلت، فما كان مني إلا الخروج بسيارة حسن البسيطة إلى مناطق بعيدة عن محل إقامتنا للعمل عليها بشركة أوبر الشهيرة، ولكن لأني لم أقبل سوى الإناث فقط،

اضغط على الاعلان لو أعجبك

فقد كان الدخل ليس بالشكل المرجو، وأكثر ما يرعبني هو أن تظهر لي إحداهن وبيننا سابق معرفة، لن أتحمل نظرة شفقة من مخلوق أبدًا، وقد زرع حسن بداخلنا شعور العزة والكرامة مهما كانت النوائب!

الآن تعطلت السيارة وهي لدى الميكانيكي منذ أسبوع، ولست أدري لمَ يتلكأ في إصلاحها؟ وهل حقًا بها تلك المشكلة الكبيرة التي يتحدث عنها أم لا؟

أُذن لصلاة العصر ورائحة المرق ومختلف الأطعمة الطيبة تتنافس على إشعال حاسة الشم لدينا، وليس لدي ما يمكن المنافسة به، أوقدت النار وانتهيت من إنضاج الأرز وبعض البيض مع قليل من السلاطة وفقط، هذا ما يمكنني تقديمه باليوم الأول من الشهر الكريم، لماذا لا يلتفت الناس أن المقصد من الشهر هو الزهد وليس الانتقام من الإحساس بالجوع حينًا من اليوم؟!

انقبض قلبي وأنا لا أدري كيف سأواجه الصغار بهذه الوجبة وقد اعتادو على طيب الطعام في هذا اليوم، لست أدري لمَ جعلنا من المقدسات فيه تناول الذبائح؟!

من المستحيل أن أذهب لبيع أحد أغراض البيت لشراء اللحم بثمنه، ومن الخيال الاستدانة، لم نفعلها قبلا، وليس لدينا الطاقة النفسية لفعلها، ولا أريد كسر هذه الروح لدى الأولاد، خرجت أسعى كسعي هاجر عليها السلام بعد أن أحيط بها، وشتان بين هذا وذاك، لست أنا من تقع لها معجزة لأجل استكمال وجبة اعتاد عليها بنوها، ما أهون هذا البلاء مقارنة بذاك!

اضغط على الاعلان لو أعجبك

ولستُ كمريم عليها السلام حين أمرها المولى عز وجل أن تهز جذع النخلة الذي يصعب تحريكه أصلا لأجل أن تنال من الرطب الجني وهي تقاسي مرارة وآلام المخاض، ولكن لدي القدرة على الأخذ بالأسباب مثلهن، وربي أعلم بحالي كما أحاط علمه سبحانه بحالهن.

لست أدري لمَ المسير ولا إلى أين المبتغى ولكنها مجرد خطوات قد تفرغ انفعالي وألمي فقط، رأيت إحدى موائد الرحمن وقد تألقت بأشكالها وأطعمتها البسيطة، حتما سيكون فيها القليل مما أبتغيه، ولكن قد أموت وأكون نسيًا منسيًا قبل قدرتي على طلب البعض منهم،

سعدت بمرأى الأطفال وقد بثت فيهم نسائم الشهر الكريم الكثير من المرح والنشاط وقد استحدثوا الألعاب التي تزيد من بهجتهم ونشاطهم، وأخيرًا نال التعب مني وقررت العودة إلى البيت حامدة الله عز وجل أن لدينا ما يكفينا السؤال، فهناك من لا يجد قوت يومه.

وبينما اكتملت استدارتي إذا به يناديني، إنه وائل زميل حسن في عمله، كانت زوجته تجلس في كرسيها الأمامي بسيارته وهو يهم بالجلوس جوارها ورآني، فلم تكتمل جلسته وخرج ثانية مناديا إياي ليهنئني بالشهر الكريم ويسأل عن الأولاد وإن كانوا في حاجة إلى شيء،

وألح في عدم التردد بطلب ما قد يحتاجانه في أي وقت، فقد كان حسن بمثابة أخ له وكم جاء ليتناول معنا العيش والملح، معبرًا بهما عن الكثير من طيب الطعام والشراب حين كنا قادرين على ذلك. وأخيرًا استقل سيارته وقبل أن ينطلق بها ناداني مجددا بعد أن أوليته ظهري، فاستدرت إليه متسائلة، فقال:

اضغط على الاعلان لو أعجبك

– أنا في عجلة من أمري، فأنت تعلمين مدى زحام الطريق الآن وأريد اللحاق بالإفطار، هل يمكنك مساعدتي؟

طال صمتى المتسائل عن المساعدة التي يبتغيها، فأخرج من جواره لفافة مد يده بها قائلًا:

– هذا آخر ما أريد توزيعه اليوم من اللحم، رجاء أن تمنحيه لمن يستحقه ولك مثل ثوابي إن شاء الله.

لست أدري هل سرعة انغلاق وانفتاح عينيّ أمامه قد فضحاني أم لا، ولكن مددت يدي وأنا أحاول صنع ابتسامة قوية غير هذه الشاحبة التي ظهرت، وأخيرًا انطلق وأنا بداخلي سؤال كبير، هل كان حقًا يقصد توزيعه على من يستحقه؟ أم أنه افتعل ذلك لمنحه لي بما لا يكسر ما اعتدنا عليه أمامه؟!

وهل أنا ممن يستحقه الآن أم لا؟

وهل هذه مكافأة السعي التي جئت خلفها أم أني أقنن ذلك لنيلها؟

ولم يطرق إلى سمعي ما حدث بينه وبين زوجته فور انطلاقه بالسيارة، فقد التفتت إليه وهي متسعة العينين وتقول له بصرامة:

– لماذا ضيعت هذا الكيلو من اللحم وأنت تعلم بأني أريده لوجبة السحور؟ هل تريد الظهور أمامها بأنك الثري الذي يوزع اللحم على الفقراء؟

نظر نحوها بألم وهز رأسه بأسى لأنه أدرك ما لم ترَه هي وقال:

– لم أضيعه، بل اختزنته لديها لما هو أهم بكثير من السحور!

اقرأ أيضاً:

أخلاق ابنة العاشرة

لا يحمل اسمي

الاختيار

* تنويه: الأفكار المذكورة في المقال لا تعبر بالضرورة عن رأي الموقع.

د. أحمد السعيد مراد

طبيب وروائي – عضو اتحاد كُتاب مصر

مقالات ذات صلة