مقالاتفن وأدب - مقالات

لا وسط، إما يمينًا أو يسارًا

مر “حسام” ذات يوم من السوق الذي يتردد عليه كثيرًا، فلقد أرسلته والدته ليبتاع بعض الخبز واللحم، وأثناء سيره المعتاد سمع أصواتًا عالية لأناس ظهروا في السوق ينتشرون في كل أرجائه محذرين الناس من حارة البساتين.

حارة البساتين هي حارة في وسط السوق، ممتلئة بالناس والبضائع، رفيعة وطويلة بعض الشئ، لم يدخلها أبدًا ولم يفكر أن يفعل قبلاً. أصابته الحيرة، أيصدق زعمهم أن أهل هذه الحارة من الأنذال واللصوص؟ أم تلك شائعات مغرضة لا أساس لها من الصحة؟

لم يهتم كثيرًا بالأمر وابتاع الخبز واللحم وانصرف إلى المنزل. بعد أسبوع جاء حسام إلى السوق كعادته، وأثناء مروره بالحارة تذكر قصتها، فدفعه بعض الفضول أن يدخلها ويرى بنفسه أهلها، وقد فعل.

دخل وهو خائف قليلاً، فلو هؤلاء المُدَّعون صدقوا فربما يُسرق داخلها، فأخذ أولى خطواته مترددًا ثم فجأة انتصر الخوف داخله، وغيَّر مساره وانصرف إلى المنزل. في الأسبوع الثالث مرَّ من أمامها، وعزم على الدخول. فوجئ بالتعامل الطيب من أهل هذه الحارة، إنهم يطعمون الفقراء ويحنون على الضعفاء، يعفون عن من لا مال له ولا يتفوهون إلا بالطيب من القول، فأصابته الدهشة من أصل الشائعات التي انتشرت حولهم في الآونة الأخيرة!

خرج حسام من السوق وعاد إلى المنزل، قرر وقتها ألا يساعد في نشر الشائعات الكاذبة حول أهل الحارة، لكنه كذلك لم يعزم على تصحيح تلك الشائعات. مرت سنوات كبر فيها حسام وتخرج من الجامعة وبدأ في البحث عن عمل.

اضغط على الاعلان لو أعجبك

وأثناء البحث وجد شركة تم إنشاؤها منذ سنوات بسيطة وتحتاج إلى الكثير من الموظفين، فقدم فيها أوراقه ليلتحق بفريقها، وبالفعل تمت إجراءات التوظيف وأصبح موظفًا بها، ثم أصبح من أحسن موظفيها باجتهاده ومهاراته.

تمر الأيام والسنوات ليكتشف أن تلك الشركة يملكها رجل فاسد، استغل الشائعات التي سادت عن أهل حارة البساتين وحرض الناس عليهم ليملتك أرضهم ليحولها إلى مخازن لشركته، ثم علم الأسوأ من ذلك أن هذا الرجل هو الذي اخترع تلك الشائعات الكاذبة عن أهل الحارة حتى يكرههم الناس فيضعفهم ليستولى على أرضهم دون وجه حق.

بالتأكيد حسام لم يدعم الشائعات لأنه عرف الحقيقة، ولكنه كذلك لم يحاربها فدارت به الأيام حتى أجبرته تدريجيًا أن ينصر تلك الشائعات ويكون من أهلها دون أن يدري. حسام لم يكن مؤذيًا، ولم يهتم كثيرًا بالأمر، ولم يتمنى يومًا أن يصبح من أهل الباطل والفساد ولم يسع لذلك بشكل مباشر.

“حسام” يشبه العديد منا، لا يبالي كثيرًا بما يحدث حوله، لاهي دومًا في تفصيلات حياته وبناء مستقبله، يحاول أن يفعل الصواب بالحد الأدنى الذي يجعله راضيًا عن نفسه. “حسام” لا يؤمن أن كلمته يمكن أن تكون سببًا في نصرة ضعيف أو خذلان مسكين، وأن فعله يمكن أن ينقذ إنسان وتراجعه يمكن أن يهلك آخر.

حسام ليس شريرًا، لكنه بالتأكيد ليس صالحًا كما ينبغي. انتبه لنفسك؛ فإن لم تنصر الحق ستدور بك الأيام لتجد نفسك تنصر الباطل، فلا يوجد وسط، إما أن تكون من أهل الحق أو من أهل الباطل. انتبه حتى لا تصبح مثل حسام!

اقرأ أيضاً:

لكي نجدهم يجب أن نكون منهم

أنا ومن بعدي الطوفان

هبة علي

محاضر بمركز بالعقل نبدأ وباحثة في علوم المنطق والفلسفة