لا تجعلوا محاضراتكم اكتب ما يملى عليك
قبل أن أحصل على درجة الدكتوراة في الفلسفة الإسلامية وقبل التسجيل لها اخترت موضوعا استشرت أستاذي د. أبو سعدة فيه، الله والعالم عند أنصار الاتجاه المشائي، فأرشدني إلى تدعيم الفكرة بفكرة مقارنة، وقال: “ولم لا تختار الله والعالم بين الاتجاه المشائي والاتجاه الإشراقي؟”، ولما قلت له هذا موضوع صعب يدخل ضمن البحوث المقارنة ذات الأبعاد النقدية قال لي حرفيا: “وما قيمة البحث العلمي إذا لم ينمي عند الباحث روح ونزعة النقد؟ لأن النقد البناء يكسب فكر الباحث الحركية والتجدد والتطور.” وقال: “إن هذا الموضوع سيكونك فلسفيا وستعلم ذلك بعد حين.”
الخواء الفكري
الشاهد في هذه المسألة ما نراه من بعض الباحثين حين نقرأ رسائلهم نصاب بالحسرة وخيبة الأمل من الكبوة التي حدثت للبحث العلمي، فنجد ما تسمى بالرسالة ليست ذات منهج ولا إشكالية ولا ترتيب أفكار ولا وجود لشخصية ما يطلق عليه باحث -إن جاز لنا القول- ولا توجد رؤية نقدية واضحة،
وللأسف تجاز هذه البحوث لاعتبارات شخصية؛ الباحث طيب وأخلاقه عالية، أو نراعي أن مدته أوشكت على الانتهاء فنتعاطف معه، لكن هل هذا ما نصبوا إليه؟ نخرج باحثا هشا فقيرا علميا! بمجرد أن يتعرض لأي سؤال في تخصصه يتهته ولا يستطيع أن يرد على تلميذه ويقوم بنهره وشتمه أمام أقرانه!
وذات يوم سألت أستاذي رحمه الله لماذا نرى كثيرا من أعضاء هيئة التدريس يحضرون إلى محاضراتهم متأخرين بالساعة أو النصف ساعة؟ والله هذا رده: “الخواء الفكري”، قلت له: “بمعنى؟” قال: “يا ولدي! الشاب من دول عارف إن محاضرته ساعتان هيقضيهم إزاي؟
نصف ساعة تأخير ونصف ساعة يأخذ الغياب ونصف ساعة نتعرف على بعض -مانشاله ما عرفني هو أنا هناسبه؟ يأخي يعرف علمي وفكري- يتبقى نصف ساعة يقول الكلمتين اللي حافظهم من الليل ويخرج الطالب من المحاضرة يا مولاي كما خلقتني أبيض يا ورد، عرفت ليه يا ولدي نكسة البحث العلمي؟ إلا ما رحم ربي”.
لماذا سردت هذه المواقف؟
لأننا مقبلون على عام جديد وسندخل إلى قاعات درسنا وسنقف أمام طلاب جدد وقدامى، فكيف نتعامل معهم؟
فلسفة الاحتواء القائم على الاحترام المتبادل لا عن طريق الضحك واللعب، الطالب إذا شعر من أول لحظة أن المسألة جد وأستاذه منضبط سينضبط، وبالمثل إذا رأى أستاذه يدخل المحاضرة في موعدها بالضبط دون تأخير بالضرورة سيحضر ملتزما. ثم بعد توضع النقاط على الحروف وتوضح الخطة التدريسية والبرنامج التدريسي الذي سيقوم به، ثم نطرح عنا فكرة الأنا العليا بمعنى نتعامل مع طلابنا بحب ولا نتعالى عليهم ولكن دون إفراط أو تفريط،
فالطالب طالب والأستاذ أستاذ، ثم لا بد أن يكون الأستاذ حسن المظهر لأن ذلك واجهة له ثم واجهة للكلية التي ينتمي إليها، ثم يبدأ في شرح موضوعه بسلاسة ويسر ويترك مستغلق العبارات، وحتى إن كان لا بد من ذكر نص فلسفي لا نتركه هملا وإنما نقوم بتبسيطه بطريقة سهلة، وكذلك نترك فكرة الإملاء فهي قاتلة فكيف بربك وأنت أستاذ تقول للطالب: “اتملى” ولا تشرح؟ اللهم إلا إذا كانت هناك قاعدة نحوية أو ترجمة لغات، أما في الفلسفة كيف؟ في التاريخ كيف؟
لنخلق حوار مع الباحث
ثم لا تترك الطالب مستمعا فقط ينظر إليك كالسمك الميت أيقظه عن طريق طرح كثير من الأسئلة ولتجعل المحاضرة ندوة علمية واجعل الطالب يتجرأ على الرد والمواجهة، ستخلق شخصية ناقدة تفيد المجتمع قبل أن تفيد نفسها، ثم نأتي إلى نقطة مهمة لا تجعل الطالب يتقوقع حول المحاضرة فقط
بل كلفه ببحوث واعطه مراجعا ووجهه إلى المكتبات وتابعه في كل محاضرة، واجعل آخر جزء في المحاضرة لطرح وتلقي الأسئلة من الطلاب وحاورهم، فبالحوار ستنمو شخصياتهم ولا تجعل حوارك مقصورا على المقرر فقط بل تناول مشكلات أخرى وتعرف على همومهم ومشكلاتهم وهنا تجعله يشعر بوجوده وأنه ذو قيمة.
ثم نأتي إلى الكتاب
فلتتقوا الله وإياكم من المغالاة في ثمنه والجميع يعلم ظروف الناس، ولا تربطوا شراء الكتب فهذه ليست عملية تجارية لا تربطوها بما يسمى بأعمال السنة ولا تجعلوها جبرا، وإذا طلبت منك نسخ مجانية فاحتسبها لوجه الله، فبذلك سيكتب لك الأجر مرتين؛ في الدنيا ستحدث لك بركة في رزقك، وفي الآخرة ثواب من الله تعالى. وفي هذا الكفاية لمن سبقت له العناية. ألا هل بلغت؟
اللهم فاشهد، وأنصح نفسي قبلكم فأنا أستاذ مثلي كمثل باقي الأساتذة وأعوذ بالله أن أذكركم وأنساه وما توفيقي إلا بالله عليه توكلت وإليه أنيب.
كل عام وحضراتكم بخير، وعام دراسي مفعم بالجد والنشاط والعمل لرفعة وطننا المحبوب ذي الشمس الذهبية حبا.