قضايا وجودية - مقالاتمقالات

سعيٌ ووعي

حياتنا بين متباينات، تخضع أحوالها لأقدار تسيّرنا، نصنع ما نملك فيها من أسباب، ونسعى بقدر ما أوتينا في سبيلها من قوة، لكن تبقى إرادتنا عاجزة عمَّا لا نملك من مقادير نافذة، فهي سنة الله في خلقه، تناقضات تلقى علينا، منح ومنع، سعادة وشقاء، سرور وبكاء، هناء وعناء، عثرات ووثبات، قوة وضعف، صحة ومرض، رضا وغضب، وبين هذا وذاك يبقى الإيمان بأننا خلقنا في دار مكابدة، نحيا فيها بين شكر على حال، وصبر على أخرى.

كلنا نبحر في سفينة الحياة لا نجاة من تلاطم أمواجها إلا بالدعاء والصبر، علها ترسو على شطّ نسعد به، مع يقيننا أنه لا نجاة ولا مفر من المحن والبلايا مهما ابتغينا إلى ذلك سبيلًا، وأن الرحلة ليست هينة ولا مرضية في كل جوانبها.

غير أن هذا اليقين لا يعني الخضوع دون سعي، فالمسلم القوي خير وأحب عند الله من ضعيف يركن لأحواله حين يمتلك ما يمكنه أن يغير به حاله، ما دام لا يخرج هذا السعي عن ثوابت الدين وقيمه، فقد أمرنا الله أن نأخذ بالأسباب، وأن نتوكل عليه: “وَمَن يَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ فَهُوَ حَسْبُهُ ۚ إِنَّ اللَّهَ بَالِغُ أَمْرِهِ ۚ قَدْ جَعَل اللَّهُ لِكُلّ ِشَيْءٍ قَدْرًا” الطلاق آية: 3.

هل التوكل ينافي السعي؟

إننا نؤمن بأن أقدارنا محسومة، وأعمارنا مكتوبة، لكن لا يكتمل هذا الإيمان إلا بالسعي، حين لا يكون التوكل على الله تواكلًا، أو الرضا بالقدر قعودًا يتعلل بـ”النصيب”، وليكون إيماننا إيمانًا واعيًا برسالتنا في الحياة، وما خُلقنا لأجله، وليكون الاتكاء مشفوعًا بأسبابه، والتسليم بقضاء الله وقدره مقرونًا بالعمل قدر طاقتنا، وبذلك يكون اليقين في عون الله وتدبيره خير معين وزاد لنا في هذه الرحلة، هذا اليقين الذي وجدناه عند موسى –عليه السلام– وهو بين حالتين أيسرهما الموت، لكنه استمسك بحبل ربه، واستمد منه العون، وجعل توكله عليه بعد سعي، قائلًا في يقين: “إِنَّ مَعِيَ رَبِّي سَيَهْدِينِ” الشعراء آية: 62، ليأتيه العون بأبهى صورة وأسرعها واقعًا وتعبيرًا لغويًا: “فَأَوْحَيْنَا إِلَىٰ مُوسَىٰ أَنِ اضْرِب بِّعَصَاكَ الْبَحْرَ فَانفَلَقَ فَكَانَ كُلُّ فِرْقٍ كَالطَّوْدِ الْعَظِيمِ” الشعراء آية: 63.

كثيرة مواقف الحياة المؤلمة التي نجد فيها أبوابًا موصدة، وحياة أظلمت بعض جنباتها، وأسباب البشر ومعوناتهم حجبت، وقتئذ لا نجاة إلا بالتعلق بأحبال الدعاء والتوجه نحو السماء بعد أن نهيئ بسعينا ما نتقوّى به حين نرفع أكفّ الضراعة إلى الله بطلب العون والمدد بأسباب السماء، حين تنقطع أسباب الأرض، فإذ برب الكون يعقد الأمل والرجاء، في مناجاة نغسل بها أدران الزمان، ونمحو بها شقاء الحرمان، ونرفع بها وصب الهمّ: “إِنَّمَا أَشْكُو بَثِّي وَحُزْنِي إِلَى اللَّهِ” يوسف آية: 86. ساعتها نرجو أن نكون ممن قال الله فيهم: “إِنَّهُ مَن يَتَّقِ وَيَصْبِرْ فَإِنَّ اللَّهَ لَا يُضِيعُ أَجْرَ الْمُحْسِنِينَ” يوسف آية: 90.

اضغط على الاعلان لو أعجبك

فضائل وثمار الدعاء

كيف يكون السعي لله

إن حسن التوكل على الله هو المنجاة في مواجهة محن الزمان وتقلبات الأيام، وعلى الإنسان أن يدرك أن المحن عملية تمحيص واختبار، ليرى الله –جل وعلا– صبر عباده واستعانتهم به، ويقينهم بقدرته أن يغير من حال إلى حال تعجز إرادتنا عن تغييره ويضعف سعينا عن بلوغه، ليكون الابتلاء والتمحيص: “..لِيَبْلُوَنِي أَأَشْكُرُ أَمْ أَكْفُرُ ۖ وَمَن شَكَرَ فَإِنَّمَا يَشْكُرُ لِنَفْسِهِ ۖ وَمَن كَفَرَ فَإِنَّ رَبِّي غَنِيٌّ كَرِيمٌ” النمل آية: 40.

فلا تظن أبدًا أن بثّ الشكوى إلى الله –عز وجل– يذهب سدى، وأن رفع عقيرتك بالإخلاص في الدعاء لا مردود له، فالله –عز وجل– أمرنا بالدعاء ووعدنا الإجابة في تعبير لغوي وأسلوبي مبهر: “وَقَالَ رَبُّكُمُ ادْعُونِي أَسْتَجِبْ لَكُم” غافر آية: 60.

نحن نخطئ كثيرًا حينما نغفل عن قيمة الدعاء، وثواب الالتجاء، وحلاوة الصبر، واليقين في النجاة، فالله –جل وعلا– يرسل لنا رسائل متعددة في الحياة، وينظر إلى جوابنا وتفاعلنا مع هذه الرسائل: “لِيَمِيزَ اللَّهُ الْخَبِيثَ مِنَ الطَّيِّبِ” الأنفال آية: 37.

جدلية شكوى الزمان وملامة الدهر

هؤلاء الذين يصبون جام غضبهم على الزمان وأهله يغفلون عن حقيقة مهمة، وهي أن الزمان خلق من خلق الله، وأنه ظرف للأحداث التي تقع فيه، فلا ذنب له ولا جناية فيما يحدث لنا، فهؤلاء يحلو لهم أن يقعدوا عن السعي وأن يأخذوا شكاية الأحوال و”الظروف” وسيلة تعلل، دون أن يبذلوا في أمرهم سعيًا، والحقيقة أن الأحوال والظروف إذا ما نطقت لشكت أحوالهم وبكت من أمرهم لا على أمرهم، وصدق “المعري” حينما قال:

نَشكو الزَمانَ وَما أَتى بِجِنايَةٍ       وَلَوِ اِستَطاعَ تَكَلُّمًا لَشَكانا([1])

إن الإنسان لو ملأ قلبه باليقين في أن أقدار الله كلها خير، حتى لو كانت مخالفة لرغباته، لاستراح من الهمّ النفسي والكرب الذي يغلف أوقاته، فنحن لا نملك إرجاع الماضي لنعدله، ولا نملك المستقبل لنرسم أحلامنا فيه، فقط نملك واقعًا نسعى فيه، فلماذا نعيش بين مطرقة الندم على ما فات، وسندان الخوف من المستقبل الآتي؟ وصدق العلي الكريم: “لِكَيْلَا تَأْسَوْا عَلَىٰ مَا فَاتَكُمْ وَلَا تَفْرَحُوا بِمَا آتَاكُمْ ۗ وَاللَّهُ لَا يُحِبُّ كُلَّ مُخْتَالٍ فَخُورٍ” الحديد، الآية: 23.

اليقين بالله في وجه الأزمات

كيف يكون السعي لله

إن خير ما يريح بالنا استشعار السعادة بكامل تفاصيلها في وقتنا الحاضر بالتصالح مع النفس، والرضا بعطاء الله، واليقين في وعده، وأن نشغل أنفسنا بسؤال مفاده: ماذا قدمنا في حياتنا؟ وما الذي ستسطره الأيام عنا بعد رحيلنا؟ وما الأثر الذي سنتركه فيمن حولنا؟ ولن يكون ذلك كله إلا بالسعي، ساعتئذ سنكون على الدرب الصحيح، وستتحقق سعادتنا التي نبحث عنها.

لقد سطر التاريخ أحداثًا متعددة لأناس كانوا قبلنا، ملأوا الدنيا وشغلوا الناس، قابلتهم في حياتهم محن، وحصلوا على كثير من المنح، لكنهم قابلوا المحن بالصبر والعزيمة واليقين في الله والإيمان برسالتهم في الوجود، فسجلوا أسماءهم بحروف من نور.

إن الأمر في حياة الإنسان مرهون بمدى تفاعله مع الأحداث من حوله، ومدى صبره وجلده على تقلبات الزمان، ومدى توكله وليس تواكله، لأن التوكل محمود، والتواكل مذموم.

الانتصار في معارك الحياة للأنقى والأصفى مع ربه، والأوعى بدينه وتعاليم خالقه، فقد يتأخر النصر والتأييد رغم البذل، لكنه حتمًا سيأتي، وقد يأتيك الشيطان من مداخل متعددة، ليجعلك تشك في وعد الله بالنصر والعطاء، وهنا يجب أن تكبل الشيطان بقيود الاستعانة والاستعاذة، وساعتئذ يعصمك الله منه، ومن كيده، كما يعصمك من الناس وظلمهم وقهرهم، فالله –عز وجل– لم يخلقك لينساك أو يتركك في مهبّ الريح مع تقلبات الحياة والناس.

الناس للناس مادام الوفاء بهم

لا مشاحة في أن الإنسان في حاجة –فضلًا عن دعاء ربه وطلب العون منه– إلى المساندة من المحيطين به، لمواجهة أحداث الزمان وريبه، فالناس للناس، والإنسان بمن حوله، ولا غنى له عن المساندة الحسية والمعنوية، فكلٌ معرّضٌ لظروف تجعله يحتاج إلى غيره، ويستند إليه، ويجد ركنًا شديدًا يأوي إليه عند الملمات.

هؤلاء الذين يعمدون إلى العزلة حينما تصادفهم مشكلة من مشكلات الحياة، وقد تصل بهم هذه العزلة إلى الاكتئاب، هؤلاء لم يفقهوا جيدًا مفهوم الاستعانة والتعاون، فالخير في الحياة موجود، بيد أن الإنسان أحيانًا قد يضل طريقه، ولا يقف على مسالكه، ومن ثم تراه يسوّد وجه الحياة بتشاؤمه.

لا نستطيع أن ننكر أن من الناس من قد يكونون سببًا في شقاء الآخرين، أو الضرب على أوتار الألم في حياتهم، لكن هؤلاء أيضًا أرادهم الله حولنا، ليتحقق الابتلاء والتمحيص، “وَجَعَلْنَا بَعْضَكُمْ لِبَعْضٍ فِتْنَةً أَتَصْبِرُونَ” الأنفال آية: 20، وحتى تنكشف أمامنا حقائق الناس، فنعرف من نصطفيه، ومن نتجنبه.

كيف يكون السعي لله؟

كيف يكون السعي لله

إن خير ما نستفيده من حالة الرضا بقضاء الله وعطائه: الراحة، واليقين في أن الأبواب كلها مهما أغلقت فهناك باب لا يغلق، وهو باب الله تعالى، وأن إرهاق النفس بالضجر والضيق والاعتراض لن يعود إلا بالوبال على صاحبه في الدنيا والآخرة، فما نراه من منظورنا القاصر شرًا قد يكون هو الخير الذي ننتظره “فَعَسَىٰ أَن تَكْرَهُوا شَيْئًا وَيَجْعَلَ اللَّهُ فِيهِ خَيْرًا كَثِيرًا” النساء آية: 19.

لا ريب في أن الأيام دول، فلا حزن يدوم ولا سرور، ومَنْ من الناس قد صفت له الحياة على الدوام؟! ومن من الناس لم يدخل حياته كدر أو هم؟! إنها سنة الله في خلقه “وَتِلْكَ الْأَيَّامُ نُدَاوِلُهَا بَيْنَ النَّاسِ” آل عمران آية: 40، ورحم الله أبا البقاء الرندي حينما قال:

هي الأمور كما شاهدتها دول من سرّه زمن ساءته أزمان

وهذه الدار لا تُبقي على أحد  ولا يدوم على حال لها شان

إننا لا نستطيع منع الحزن أو إيقاف الأحداث التي تدفعنا إلى الكدر، لكننا نملك مع السعي سلاحًا يعيننا على مواجهة تلك الأزمات، والتغلب على هذه العقبات، وهو اللجوء إلى الله، والوقوف على عتباته، والركون إلى قدرته وتدبيره، وهذا هو السلاح الذي ننتصر به على محن الأيام، وعوادي الدهر.

[1])اللزوميات لأبي العلاء المعري، تحقيق/ أمين الخانجي، مكتبة الهلال – بيروت، مكتبة الخانجي القاهرة، جـ 2/ 365.

مقالات ذات صلة:

كيف يبدأ الوعي

ما هو اليقين؟

مقام المناجاة

* تنويه: الأفكار المذكورة في المقال لا تعبر بالضرورة عن رأي الموقع.

_________________________________

لمتابعة قناة اليوتيوب لأكاديمية بالعقل نبدأ، اضغط هنا

لقراءة المزيد من المقالات، اضغط هنا

أ.د/ ماهر فؤاد الجبالي

 أستاذ الأدب والنقد ووكيل كلية الدراسات الإسلامية والعربية للبنات بجامعة الأزهر