مقالات

كيف يفكر الأطباء؟

الجزء الثاني: (قاعدة الحمر الوحشية)

تحدثنا في مقال سابق عن تلك القائمة الطويلة من الأمراض التي تتكون في ذهن طبيبك بمجرد سماعه شكواك والتي أطلقنا عليها اسم  “قائمة التشخيص التفريقي”، ثم شرحنا كيف يقوم الطبيب باستبعاد أغلب هذه الأمراض من خلال طرحه عددا من الأسئلة عليك وسماع إجاباتك عليها فيما يعرف باستيضاح التاريخ المرضي، وينتهي استيضاح التاريخ المرضي غالبا بأن ينحصر ذهن الطبيب في التفكير في عدد محدود جدا من الأمراض تعتبر هي محل الشك الأقوى وتكون هي الأكثر قدرة على التسبب في تلك الأعراض التي تشكو منها.

يطلق على هذا العدد المحدود جدا من الأمراض اسم “التشخيصات المبدأية” وهي لا تتجاوز في أغلب الأحيان الثلاثة أو الأربعة، وتتميز هذه الأمراض بالتشابه الشديد فيما بينها فيما تسببه من أعراض مرضية وما ينتج عنها من مشكلات صحية، حتى إنه ليصعب على طبيبك استبعاد أي منها بواسطة التاريخ المرضي فقط، وعليه أن يقوم بفحصك بشكل جيد ثم طلب عدد من التحاليل والأشعات لتأكيد تشخيص واحد فقط منها، وهو ما يعرف بـ “التشخيص النهائي” وهو ما ينبني عليه وصف العلاج المناسب.

ولكن السؤال الذي يطرح نفسه.. لمن يعطي الطبيب الأولوية عند ترتيبه تلك الأمراض المسببة لشكواك؟ وعلى أي أساس يرجح أحدها على الآخر في حال تشابهها؟ والإجابة تكمن في القاعدة الرابعة أو ما يعرف بـ “قاعدة الحمر الوحشية”.

القاعدة الرابعة: قاعدة الحمر الوحشية:

ربما جذبك من قبل ذلك المشهد من أحد الأفلام السينمائية أو المسلسلات التلفزيونية الذي يظهر لنا طبيبا بارعا يقوم بسؤال مريضه عدة أسئلة بسيطة ثم ما يلبث أن يتفتق ذهنه عن تشخيص نادر لم يدر في خلد أحد من زملائه أو معلميه من قبل، فيثير بذلك إعجاب المريض وأهله ويثير كذلك إعجابك وإعجاب المشاهدين له.

اضغط على الاعلان لو أعجبك

ولكن عزيزي القارئ إليك المفاجأة الكبرى، فالحقيقة أن هذه الطريقة المثيرة للإعجاب والباعثة للدهشة ليست هي الطريقة التي يفكر بها الأطباء ويتدربون عليها خلال فترة دراستهم، فالطبيب البارع بحق لا يفكر -بادئ الأمر- خارج الصندوق ولا يلجأ في حساباته الذهنية لأساليب غير تقليدية كتلك التي تشاهدها، بل ربما يكون في تفكيره بهذه الطريقة وفي انتهاجه نهجا كهذا أذى كبير لمرضاه وجرم بالغ في حق مهنته.

والمطلوب من الطبيب في البداية أن يقوم بترتيب الأمراض محل الشك والاتهام وفق قاعدة تعرف بقاعدة الحمر الوحشية، وتنص هذه القاعدة على الآتي: “إذا سمعت أصوات الحوافر فكر في الأحصنة لا في الحمر الوحشية”، فما معنى هذا الكلام؟!

مثال للتوضيح

لتوضيح ذلك دعني أضرب لك كالعادة مثالا، هب أن أحد أصدقائك أخبرك أنه أثناء خروجه من منزله رأى حيوانا، ترى ما هو نوع الحيوان الذي سيتبادر إلى ذهنك؟ بالطبع أنت لن تفكر في حيوان كالزرافة مثلا أو كالأسد، لكنك ستفكر -بادئ الأمر- أن يكون هذا الحيوان قطة أو كلبا أو ربما يكون حمارا أو حصانا، وستضع احتمالية أن يكون هذا الحيوان جملا في ذيل القائمة.

فترى لماذا فكرت في هذه الحيوانات تحديدا دون غيرها؟ ولماذا قمت بترتيب احتمالاتك بهذا الشكل دون غيره؟ والإجابة عزيزي القارئ سهلة بسيطة وهي أن هذه الحيوانات هي الأكثر شيوعا في بيئتك وهذا الترتيب بهذا الشكل هو الأكثر توافقا مع نسب انتشار هذه الحيوانات ونسب مصادفتك لها، وهذه تماما هي القاعدة التي تحكم ذهن الطبيب عند تفكيره في الأمراض المسببة لعرضك، إنه يفكر أولا في أكثرها شيوعا في بيئتك وأكثرها تماشيا مع تاريخك المرضي ثم ينتقل بعدها لتلك النادرة والأقل شيوعا.

التفكير الطبي المنطقي

وهذا يعني أننا إذا كنا نردد دوما بأن الواحد جمع الواحد يساوي اثنين، فإن هذا الأمر سليم إلى حد كبير في الممارسة الطبية، لكن وفي حالات نادرة -ولأن أجساد البشر ليست آلات صماء- يكون الواحد جمع الواحد يساوي ثلاثة ويساوي أربعة، لكنك كطبيب ملزم بأن تعتمد على الإجابة الأولى أولا لأنها الأقرب للمنطق والأكثر شيوعا حتى يثبت عكس ذلك.

اضغط على الاعلان لو أعجبك

والتفكير بهذه الطريقة وإن كان يبدو مملا وغير شيق إلا إنه مهم، بل قل هو في غاية الأهمية، ليس لأنه يساعد الأطباء في تشخيص معظم الحالات المرضية فحسب بل لأن التفكير بأي أسلوب آخر غير ذلك يفقد التفكير الطبي منطقه ويخرج العملية الطبية من دائرة العلم المبني على الأدلة والبراهين إلى نطاق الأهواء والاعتقادات والأحاسيس الشخصية.

وفي النهاية عزيزي القارئ أكرر تأكيدي على أهمية هذه المرحلة “مرحلة استيضاح التاريخ المرضي” في الممارسة الطبية، فأنصحك ألا تمل من كثرة أسئلة الطبيب لك وأنصحك ألا تتعجل عملية فحصه لك، فالكثير من الأمراض تشخصها إجاباتك أنت على أسئلة الطبيب قبل أن تشخصها السماعة الطبية أو أية أدوات أخرى.

اقرأ أيضاً:

الجزء الأول من المقال

الخدمة الاجتماعية الطبية وإدراة الأزمات

الطبيب النفسي في السينما! نمطية وسذاجة في العرض!

اضغط على الاعلان لو أعجبك

* تنويه: الأفكار المذكورة في المقال لا تعبر بالضرورة عن رأي الموقع.

د. عمرو أبو الحسن المنشد

مدرس أمراض الصدر كلية الطب – جامعة أسوان

مقالات ذات صلة