هل تعلم أنه يوجد “فلتر” في عقلنا لتصفية المعلومات الصحيحة من الخاطئة؟ يا ترى ما هو؟
كما أن للأفكار الإنسانية عللًا داخلية؛ أي من نفس الإنسان وعقله، إلا أنها تتأثر لا محالة بعوامل خارجية؛ مثل البيئة والسياق التاريخي، واللذان يرجحان بعض الأفكار والحركات الإنسانية على بعض، فعلل الإنتاج الفكري للإنسان وأسباب السلوك الإنساني متنوعة تنوعًا كبيرًا. ووجود هذه التغيرات لا يعني عدم ثبات بعض أنواع المعرفة وإطلاقها،و أنها من البديهيات فحاصل جمع إثنين وإثنين هو نتيجة ثابتة مطلقة دائمًا وهي الأربعة، ولا تأثير للحركات الاجتماعية والتاريخية والبيئية عليها. ومع الثابت توجد أيضًا معارف متغيرة، وأخرى نسبية.
ثبات المعرفة وتغييرها
وثبات المعرفة وتغيرها راجع لثبات الواقع وتغيره، فالمعرفة الإنسانية انعكاس للواقع الخارجي في النهاية، فكما أن مجموع برتقالتين وبرتقالتين هو أربع برتقالات دائما؛ إلا أن مكان هذه البرتقالات في الخارج قد يتغير من وقت لآخر، وبذلك تتغير المعرفة الحسية بهم.
وهنا يتضح أن الإدراك العقلي ثابت، كونه مجرد عن المادة المتغيرة، وعن الزمان والمكان ومتجاوز لهما؛ أي لا يتغير بتغيرهما، مع قدرته على إدراكهما وإدراك تأثيرهما على المعلومات الحسية.
إذن لماذا تختلف المعلومات والأحكام العقلية من وقت لآخر؟ مثل الحكم العقلي في السابق بأن الأرض مسطحة ثم عدنا وقلنا إنها كروية؟
في المثال السابق عن الأرض كانت المعلومة الأولى وهي كونها مُسطّحة خاطئة، فلم تكن علمًا حقيقيًا، أو معرفة صحيحة؛ أي ليست مطابقة للواقع. أما عندما حصلنا على معرفة مطابقة للواقع ولحقيقة الأرض فإنها ستظل ثابتة وصحيحة، مثلها مثل مجموع إثنين زائد إثنين.
لذلك فالتحدي الحقيقي الذي يواجه الإنسان هو التأكد من صحة معلوماته. أما السبب الرئيسي لسقوطه في الشك المطلق أو في القول بتغير الحق ونسبية الحقيقة وغيرها من الأقوال التي تؤدي للسفسطة؛ هو اعتماده على معلومات يتضح له فيما بعد خطؤها.
التأكد من صحة المعلومات و دور البديهيات
لكن كيف يمكن للإنسان التأكد من صحة معلوماته؟ والتأكد من مطابقتها للواقع؟
يحدث ذلك عندما ينطلق الإنسان في استدلالاته من مقدمات أولية صحيحة وأكيدة، ويتحرك بطريقة صحيحة وأكيدة. فهل تتوفر هذه المعلومات وهذه الطريقة؟
في الواقع نعم؛ فيما يعرف بالبديهيات. فالبديهيات هي معلومات واضحة، وصحيحة، ويقينية، ومطابقة للواقع، ولا تحتاج لدليل، أو لمقدمات سابقة عليها.
من هذه البديهيات القضايا الحسية، مثل وجود هذا المقال أمامك، ومنها نتائج التجارب التي تمت بشكل سليم، ومنها الأخبار المتواترة مثل قيام حرب أكتوبر 73 ووجود الصين.
إلا أن أهم البديهيات هو ما يعرف بالأوليات العقلية؛ وهي قضايا مثل استحالة اجتماع النقيضين، فمثلا يستحيل أن توجد هذه البرتقالة ولا توجد معًا في نفس الزمان والمكان والجهة. ومنها أن الكل أعظم من جزئه؛ إذ أنه هاتين البرتقالتين أكبر من إحداهما بالضرورة. ومنها أن لكل حادث سبب، فإذا اختفت إحدى البرتقالتين، فإن هذا الحادث لا بد له من سبب، وإلا بقي الحال على ما هو عليه دون تغيير.
ومن طرق التفكير البديهية هي القياس، وهو الانتقال من الكلي إلى الجزئي؛ لأن الجزئي مشمول بالضرورة في الكلي، فعندما أقول لك، محمد مصري، وكل مصري عربي؛ تستنتج بداهة أن محمد عربي.
الانطلاق من البديهيات يهدم السفسطة
وعندما يثبت للإنسان امتلاكه معلومات يقينية ومطابقة للواقع، وطريقة تفكير يقينية وتؤدي لنتائج مطابقة للواقع؛ ينقطع دابر السفسطة، ويثبت امتلاك الإنسان لميزان يُمكّنه من الحكم على الأمور، واكتساب المعارف الحق المطابقة للواقع واليقينية، ويمكنه أن يزن كافة الأحكام والمعارف عليها.
وعندما ينطلق الإنسان من البديهيات وبطريقة التفكير القياسي يستطيع أن يصل لنتائج يقينية وحق، في المسائل الخاصة بكيفية المعرفة والتفكير، وفي المسائل الخاصة بالوجود والطبيعة وما ورائها، والخاصة أيضًا بالأخلاق والسياسة، وبالصواب والخطأ. وتُشكِّل هذه المعارف اليقينية الحق أساسًا راسخًا يمكن أن يبني الإنسان عليه ويتحرك بناءً عليه في كافة سلوكياته.
أما لو لم يكن باستطاعة الإنسان أن يحكم حكما يقينيا وصحيحا على أي قضية؛ أي لو لم يمتلك الميزان؛ تصبح معرفته كلها محل شك وبلا قيمة. فمن أعظم الاكتشافات على الإطلاق هو اكتشاف كيف نتأكد من صحة معلوماتنا وأننا حقا نعرف؛ أي أن ننتبه للبديهيات، وننتبه لطريقة التفكير القياسي، هذا الاكتشاف الذي تُبنى عليه المعرفة البشرية بأكملها.
هَاهُنا تبرز الأهمية الكبرى للمعلم الأول أرسطو
فأعظم إنجازات أرسطو هو تدوينه لكيفية تفكير الإنسان، وتدوينه لكيفية وصوله للحق واليقين، وهو اكتشاف وليس اختراع، أشار إليه أساتذته العظام سقراط وأفلاطون، وقام أرسطو بتدوينه والبناء عليه في علم منفصل، هو “علم المنطق”.
وقد جاء إنجاز سقراط وأتباعه وخاصة أرسطو؛ كرد فعل على الاتجاهات السفسطائية التي انتشرت في اليونان قبل عصرهما، حيث انتشرت النسبية المطلقة، فالقول بأن حاصل جمع إثنين وإثنين أربعة هو مجرد رأي شخصي خاص بك، لا يمكن إثباته ولا يمكن الاعتماد عليه. وهكذا في كل معلومة ومعرفة واعتقاد وخلق وقانون، في سفسطة مهلكة للإنسان؛ تُسقط العقائد والأخلاق والمعايير والمبادئ والعلوم والمعارف الإنسانية بأكملها. فالمنهج العقلي والمنطق يبنيان على المعلومات البديهية اليقينية الحق المطلقة، وتدوينهم في اليونان القديمة جاء متأثرا بالظرف التاريخي الخاص وقتها.
السفسطة تعود من جديد
وفي عالم اليوم وخاصة بعد الحرب العالمية الثانية، انتشر اتجاه ما بعد الحداثة الغربي؛ فعادت من خلاله السفسطة من جديد، وانتشرت الاتجاهات العدمية والنسبية والتشكيكية، وقام بعض المفكرين يستلهمون تراث السفسطائيين القدماء سواء نسبوا أنفسهم إليهم أم لا. وكعادة حركية التاريخ فإنه لن يكون رحيمًا بهؤلاء، وسرعان ما سينساهم الزمن؛ ذلك أنهم ببساطة لا فكر لهم ولا ميزان ولا معارف حقيقية، فالسفسطة لا تبني أفكارًا أو حضارات، بل هي قادرة فقط على الهدم.
وفي هذا المنعطف التاريخي للبشرية تظهر الحاجة للعقل، وللاتجاهات العقلائية، وتظهر الحاجة الماسة للميزان اليقيني الصحيح المطلق والمشترك بين كل البشر، وهو “المنطق”؛ الذي يعتمد على فطرة الإنسان وحقيقته، وعلى عقله المميز والمشرف له عن باقي الكائنات في عالمنا المادي.
مقالات هامة في نفس الموضوع
القوى الكامنة في الإنسان .. لماذا نحن مميزون بالعقل
لقراءة المزيد من المقالات يرجى زيارة هذا الرابط.
ندعوكم لزيارة قناة أكاديمية بالعقل نبدأ على اليوتيوب.