كيف نصل إلى حوار أرقى؟ – الجزء الثالث
تحدثنا في المقالين السابقين عن أهم العوامل المؤثرة في إقامة حوار مثمر أو هدمه بإيجاز، وفي هذا المقال نستكمل المسيرة بخطوات وحلول عملية عن كيفية بناء جسر حقيقي للتواصل ومحاولة جادة لإقامة حوار راقي كلما أمكن ذلك. يمكننا إجمال الخطوات كلها في 3 نقاط أساسيين ينبثق منهم جميع النقاط الفرعية التفصيلية وهما:1. الوعي بالنفس 2. الوعي بالآخر3. الوعي بوجود إله
أولاً: الوعي بالنفس
عندما يريد شخص أن يقيم تواصلاً حقيقيًا، فهو جزء أساسي من هذا التواصل، يفعل وينفعل ويؤثر ويتأثر في الحوار، فكان لزامًا أن يكون الوعي بالنفس خطوة أساسية ومهمة للوصول لحوار راقي مثمر. المقصود بالوعي بالنفس على المستوى الخاص، أي أن يفهم كل منا نفسه وما بها من خصال جيدة وذميمة، ما تمتلك من قدرات ومهارات وما تفتقر إليه منها، مدى قدرتها على ضبط نفسها وتطويعها للصواب وللحق، ومستوى حال العقل وما به من أفكار.
فمثلاً عندما يعي الفرد أنه صبور فسيحفزه ذلك على المشاركة في نقاشات طويلة أو الدخول مع أشخاص إنفعاليين في حوار يدري جيدًا أنه لا يمكن أن يكتمل دون صبر وحلم. وعندما يدرك أن بداخله أنانية لم يهذبها بعد، فسيصب تركيزه على ضبط أنانيته أثناء الحوار مع الآخرين حتى يستمر معدل تدفق الأفكار بشكل طبيعي وسلس، وسيحاول التركيز على سماع الآخر وإعطائه مهلة للتعبير عن أفكاره.
كذلك عندما يعي أن قدراته على التحليل والتركيب جيدة، فيشجعه ذلك على تفنيد أفكار الشخص الآخر، وربط المعلومات السابقة بالجديدة والتمكن من الاستنتاج الصحيح. كذلك عندما يدرك أن نفسه لازالت تفتقد السيطرة على المشاعر، فسيعيد لنفسه التوازن عندما يجدها على بشائر الإنفعال أثناء الحوار. سيقودها رغمًا عنها إلى التسليم بالحق والرأي الصائب حتى لو خرج من فم العدو، ولن يقلب الحوار رأسًا على عقب عندما يشعر أن حججه ضعيفة هشة البناء.
الوعي بالنفس شديد التأثير على مسار الحوار؛ بل كذلك على البدء لأن الفرد سيحدد قبل أن يبدأ هل في استطاعته الدخول في هذا النوع من الحوار أم لا، وهل هو أهل لتلك المهمة لإقامة جسر بينه وبين الآخر أم الأفضل أن ينسحب؟! الوعي بالذات عندما يكون صحيحًا، يمكنه أن يقيم حوارات رائعة يمتد تأثيرها الطيب أعوامًا وأعوام، وأن يتفادى الكثير من أسباب فشل الحوار والخلل الناتج عن تأثير عيوب النفس والجهل بها.
ثانيًا: الوعي بالآخر
والمقصود بالآخر هنا هو الجهة الأخرى من الحوار، سواء كان شخص واحد تحاوره أو عدة أشخاص. عندما تكون على دراية كافية بالطرف الآخر سيساعد ذلك كثيرًا على مدى كفاءة الحوار بينكما، فإن كنَّا على دراية بخلفية كافية عن الطرف الآخر، استطعنا استيعاب مدلولات مصطلحاته ومفاهيمه وألفاظه التي يوصف بها أفكاره، ولفهمنا الإطار الذي يحد ذهنه عن طريق إدراك طريقة نظرته للأمور.
كذلك الأمر عندما نملك قدر كافي من الوعي بنفسية الآخر، وما تحمله نفسه من فضائل أو رذائل، فمثلاً إن شهدنا قدرته على التمهل والتروي في الاستماع للفكرة تحفزنا للمبادرة بطرح موضوعات للنقاش، والعكس سيحدث إن كنا نعلم جيدًا سرعته غير المحمودة في الحكم وإتقانه للصبر.
كذلك سيمكننا ذلك من عدم الخوض مع رذائل النفس إن تجلت أثناء الحوار، فإن أظهر الطرف الآخر شيئًا من الحقد أو الغيرة المذمومة أو الغضب المتهور، فسنكون على استعداد وجهوزية لاستيعاب ذلك بما لا يتعارض مع الأخلاقيات والآداب، بل أحيانا يمكننا استخدام ذلك في لفت نظر الشخص الآخر بما في داخله ليراجع نفسه ويرقى.
عندما ندرك أيضًا مدى ضبط الآخر لمشاعره ومدى انسياقه لها، سيمكننا ذلك بشكل أو بآخر من ترتيب عناصر الحوار، أو غلق الحوار تمامًا في بعض الأحيان التي يصل فيها الأمر إلى حارات صماء، أو ربما تجعلنا أكثر حنكة في استيعاب تلك المشاعر وتوجيهها للحق.
أيضاً الوعي بقدرات الطرف الآخر وإمكاناته الذهنية والمادية تجعلنا أكثر حكمة في اختيار مستوى الأفكار المطروح، والألفاظ المستخدمة، والأسلوب المستعمل، فلا نظلم شخصا ما بأضعف مما يستحق ولا نُرهق شخص آخر بأكثر مما يحتمل. الوعي الصحيح بالآخر يجنبنا إثارة مشاكل أو خلافات نتيجة تصادم عيوب الذات بعيوبه، وما أعظم تلك من خطوة! الوعي الكافي بالآخر يمكننا من مساعدة الآخر فعلاً، لا تعجيزه أو ظلمه.
ثالثًا: الوعي بوجود إله
كما ذكرنا في المقال السابق، الحياة تختلف برمتها إن وضعنا الإله في المعادلة، فإننا إن آمنا بوجود إله لهذا الكون فلابد أن نعي أن طاعته واجبة وعصيانه حمق، وأن من صور نتائج طاعته أن ينفتح العقل والقلب للحقائق ويكون أكثر استعدادًا لقبوله وفهمه واستيعابه واتباعه، وعصيانه يورث في النفس حجاب عن فهم الحقائق وقبولها والسير نحوها، تمامًا كجهاز استقبال الإشارات اللاسلكية، فإن التطهير المستمر للنفس يجعل أجهزة استقبالنا للإشارات الإلهية أقوى والعكس صحيح.
النقطة الثانية الناتجة عن الإيمان بوجود خالق هي إدراك أن السيطرة الكاملة في يده، فقد يسير الإنسان وفق كل ما تحدثنا عنه بالضبط ولا يجد نتيجة حالية تذكر، فمثلا يكون على دراية كافية بالذات وبالآخر وبالموضوع المطروح ويجتهد تمام الاجتهاد في الأسلوب المستعمل والكلمات المنتقاة والأفكار المناسبة والأدلة الثاقبة ولا يجد حوارًا مثمرًا أُنتج، فلا يتعجب حينها، فإرادة الخالق قد تتعدى حدود فهمنا القاصر، وما علينا إلا المحاولة بإتقان.
النقطة الثالثة تعتبر منبثقة من النقطة الثانية، ولكن إيضاحها مهم، وهي أن الإله يربي الإنسان، فقد يبتليه أحيانًا بأشخاص عنيدين أو مؤذيين ليهذبه، وقد يبتليه بصعوبات مستمرة في الحوارات ليصلح نواياه ولا تخدعه نفسه بأنه على شئ إن نجح في الحوار وأثمر، وذلك لا يُعارض أبدًا من احتمالية استفادة الطرف الآخر بالحوار.
وبهذا نكون قد أوجزنا الفكرة المرجوة عن إمكانية خلق حوار مثمر عن طريق أفكار وإصلاح للنوايا وبضع خطوات عملية لا ينجح فيها إلا مجتهد مخلص.