مقالاتعلم نفس وأخلاق - مقالات

كيف نصل إلى حوار أرقى؟

بضع لحظات من التأمل في واقعنا الإنساني، نجد أن التواصل بيننا كبشر بات مطلبًا صعبًا، بل هو في كثير من الأحيان مستحيل. فلا نستطيع أن نَصِف كثير من العلاقات الإنسانية أنها تتفاعل على النحو المطلوب لخلق بيئة اجتماعية حقيقية يُثمر عنها أشكال مختلفة من التشارك والتضافر الذي يغني ويُعمر، بل نجد العكس أحيانًا وكأننا نُصِر ألا تتقابل النفوس برغم تلاصق أجسادنا في العربات والشوارع والمنازل!

إن بسّطنا أكثر المشكلة فسنقول أن الحوار بات منعدمًا، ونادرًا أن نجد من يسعى لخلقه أصلاً ناهيك عن تحسينه أو تطويره.

وعند ذكر “الحوار” نقصد الحوار الإنساني الحقيقي، الذي تتلاقى فيه النفوس حقًا، وتتفاعل فيما بينها فينتج عن هذا التفاعل تكوُّن جسر تواصل حقيقي، وعي يتلاقى مع وعي آخر فيُزهر شيئًا ما عند أحدهما أو كليهما، ويمتد تأثير هذا الأمر لِيمس كل من يتفاعل معهما.

عند تحليل أسباب هذا الانقطاع في القدرة على إتيان تواصل حقيقي، ربما يظن البعض أن أهم تلك الأسباب هو نفور الناس من ذلك، ولكنني لا أعتقد أنَّ هذا هو السبب الأصلي، فلا أحد بفطرته يحب المعاناة!

بل في أغلب الأحيان يفشل الحوار نتيجة عجزنا عن تكوينه بصورة حقيقية مُثمرة تخلق هذا التواصل المتين الذي يسمح بتلاقي النفوس والأرواح، وهنا في تلك السلسلة؛ محاولة لتوضيح أبرز النقاط التي أظن أنها أسباب مؤثرة وحاسمة.

اضغط على الاعلان لو أعجبك

قواعد التواصل الإنساني الحقيقي بين النفوس

لن أتحدث عن القواعد الشهيرة لإقامة حوار بسرد عدة قواعد تصف بعض السلوكيات التي يلتزم بها المتحاورون عند بدء النقاش وخلاله وحتى نهايته، لأنني أظن أن الأمر يمتد لما وراء ذلك بكثير، فنحن لا نريد فقط إقامة ساعة أو ساعتين من النقاش السريع أو البسيط لإثنان أو أكثر من المارة أو لأحاديث عشوائية ليلية، بل نريد أن نفهم صورة واضحة لربما تفتح الآفاق بين النفوس وبعضها لتتلاقى بكافة الطرق والوسائل.

والحوار هو اللبنة المتينة لهذا الجسر الذي نريد أن نضع أسسه من خلال بعض الأفكار، ولكنه ليس غاية في ذاته، بل هو وسيلة لتحقيق الجسر بين النفوس لتحقيق غاية أكبر وهي التفاعل الإنساني الحقيقي المُوجب للسعادة.

وسنحاول من خلال سلسلة المقالات هذه أن نوضح عدة قواعد لتحقيق هذه الغاية.

القاعدة الأولى: (لا تتعامل مع الناس على أنهم يشبهونك)

إن حللنا الحوار فسنجد أن أهم مكوناته هو الإنسان نفسه، ولأننا نقصد تلاقي النفوس ببعضها؛ إذن فلابد أن يتم بين اثنين على الأقل من الناس، وهنا تتجلى أهمية تلك القاعدة العامة التي ينبثق منها الكثير من الفروع الهامة.

فالبشر تجمعهم مشتركات إنسانية صحيح، كالمكونات الأساسية لهم كطبيعة إنسانية، وكفطرة أولية واحدة ولكن يختلفون في الكثير من الجزئيات، منها:

  1. اللغة وصياغتها

لا أقصد هنا مجرد اختلاف اللغات عن بعضها كاللغة العربية والإنجليزية وغيرهم فقط، بل أقصد اختلاف طريقة صياغة أفراد اللغة الواحدة، فالصياغة تعني تجسيد المعنى في كلمة أو أكثر، وهو ما يحتاج إلى مهارة ودقة شديدتين لامتثال اللفظ الخارج للمعنى المراد فعلًا، لا أكثر ولا أقل، وهو ليس بالأمر الهين لدى الكثيرين.

فنجد أحيانًا أناس لديهم صعوبات في التعبير عما بداخلهم أصلاً، فلا يستطيعون بسهولة أن يجمعوا أفكارهم التي يدركونها وينقلوها من بيئتهم الداخلية إلى الخارج، ونجد البعض يجتاز هذه المرحلة، ولكنه لا يتقن اختيار الألفاظ المناسبة لما داخله ويستبدلها بألفاظ غير مناسبة، فيُخرج المعنى مشوهًا أو -على أقل تقدير- غير مطابق لما بداخله.

ويتأثر ذلك -بالطبع- بمستوى الفرد نفسه باللغة التي يتحدث بها ومدى امتلاكه لحصيلة كلمات كافية ومتنوعة تسمح له بإتمام عملية الانتقاء بسلاسة وأريحية.

وهنا تعتبر أول خطوة قد تقلب الحوار رأسًا على عقب، لا لاختلاف الأفكار، لا أي سبب إلا عدم اتساق الفكرة الداخلية وشكلها بعد الخروج، وهي خطوة رغم صغرها هامة، لأنها أولى خطوات التواصل.

  1. مستوى الوعي

أولًا: لا تتأثر عملية تجسيد الأفكار في الكلمات بالصياغة فقط، بل كذلك بمدى كفاءة الفكرة نفسها، والقدرة على بلورتها وتجميعها وفهم تفاصيلها وحدودها، وكذلك القدرة على استقبال كلمات الطرف الآخر وقراءتها على ما هي عليه فعلًا دون زيادة أو نقصان.

فاستيعاب الشخص لأفكاره، يؤثر بشدة على طريقته في إظهارها، واستيعاب الشخص لما يتم استقباله من الطرف الآخر، كذلك له تأثير كبير في بناء أول لبنة في جسر التواصل، فأي إضافات عن المعنى الحقيقي الذي يريده أي منهما، أو أي نقصان عن هذا المعنى، يؤدي إلى خلل ما بالتأكيد.

ثانيًا: يتأثر الحوار كثيرًا بمدى إدراك أطرافه لنقاط جهلهم، فلا بَشري يُطيق الوصول إلى العلم الكامل، فحتمًا هناك نقاط جهل ما سواء كُليَّة أو جزئية، وإدراك كل طرف بنقاط جهله تساعده على تجاوز الخلل الناتج عن الوقوع فيها.

ثالثًا: المستوى الفكري الحقيقي لأطراف الحوار، فبالطبع؛ الحوار يحتاج إلى ربط وتحليل وتفسير واستنتاج وغيرهم من العمليات الذهنية التي تزدهر وتتم بأفضل صورها كلما كان الوعي أعلى والبصيرة أقوى.

فمثلاً عندما يدرك الفرد بوعيه الصحيح الفكرة وكيفية تناولها وتمحيصها، وطرق كشف الحقيقة من الزيف، فلن يتطرق الحوار إلى العشوائية والتشعُّب، بل ستظل النقاط موصولة ومتحكم فيها وإلا ستكون المشكلة حينها في الأساس خللاً في الوعي لا أكثر، أدى إلى تشتت وضياع الموضوع نفسه.

  1. الخلفية السابقة

التطابق غير ممكن في عالمنا، فحتى التوأم رغم تشابه نشأتهم في أحيان كثيرة إلا أن التطابق التام بينهما مستحيل، فكل فرد له خصوصية كاملة ناتجة عن اختلاف خصاله الفسيولوجية (الجينات مثلاً) والبيئة التربوية والاستعدادات والقدرات والخبرات التي تتراكم لديه، وكل ذلك يساهم في اختلاف الشخصية والقابلية الذهنية والسلوكيات.

وسنتحدث بشئ من التفصيل عن هذه العوامل في الجزء الثاني من سلسلة المقالات، ثم نستكمل رحلتنا في محاولة توضيح أسس تُساهم في خلق جسور أفضل للتواصل بين النفوس.

تابعونا.

 

هبة علي

محاضر بمركز بالعقل نبدأ وباحثة في علوم المنطق والفلسفة