إصداراتمقالات

كيف نصدر أحكامنا

“نحن – البشر – بطبيعة الحال نميل لإصدار الأحكام طوال الوقت”، أغلب تلك الأحكام تأتي من تجاربنا الشخصية المختلفة، دعونا نذكر مثالا: في أحد البرامج قام مقدم البرنامج بالصعود إلى الحافلة ووضع صندوق مكتوب عليه إنّ ثمن التذكرة جنيه واحد وأنه على من يصعد إلى الحافلة أن يضع نقوده ويأخذ تذكرة وأنه لا “كمسري” في رحلة اليوم… في نهاية اليوم قام بتفريغ المال الذي في الصندوق وأجرى عملية حسابية بسيطة استنتج منها أن ٩٥٪ من الناس قد دفعوا ثمن التذكرة وبالتالي فإن نسبة الأمانة هنا في “مصر” ٩٥٪.

هل يمكننا الوثوق بهذه النتيجة؟؟ أعني هل تعني هذه النتيجة حقا أن نسبة الأمانة في “مصر” ٩٥٪؟؟ هل يكفينا ركاب الحافلة طوال اليوم للحكم على ٩٠ مليون شخص؟؟ بالطبع لا.. كلنا يعرف أنها مجرد عينة، ولأنها كذلك فالنتيجة التي توصلنا إليها تحتمل الخطأ، وفي حالتنا هذه فإنها تحتمل الخطأ بشكل كبير لأن نسبة ركاب الحافلة إلى ال٩٠ مليون تكاد لا تذكر…

في الحقيقة حتى الجملة التي بدأتُ بها المقال والموضوعة بين علامتي تنصيص ليست يقينية… أنا لم أتعامل مع جميع البشر الموجودين على هذه الأرض كما أن نسبة البشر الذين قابلتهم في حياتي لا تساوي شيئا إذا ما قورنت بمجموع سكان الكوكب… إذًن فجملتي حتى لا تقترب من الصواب، هي مجرد ظن، لأن ما قمت به هو “استقراء ناقص” لاحتمالات أو جزئيات محدودة قمت على أساسها ببناء صورة كلية أو استنتاج كلي.

السؤال الآن هل يمكن للنتائج التي نصل إليها بالطريقة الاستقرائية أن تكون نتائج يقينية؟

الإجابة هي نعم لكن بشرط أن نستطيع الإحاطة بجميع الاحتمالات أو الجزئيات حينها فقط يمكننا القول إن ما استنتجناه هو أمر يقيني لا يحتمل النقاش وهو ما يطلق عليه “الاستقراء التام ” أما ما دون ذلك فهو مجرد ظن يحتمل الصواب أو الخطأ.

اضغط على الاعلان لو أعجبك

لو أردنا أن نضرب مثالا أكثر حيوية ويمس واقعنا اليومي بشكل أقرب، لنفترض أنك سألت أحدهم عن معنى السعادة وأن إجابته كانت “المال”. .لا لن أطرح تحليلا متفلسفا ونصائح حول أن المال ليس كل شيء وأن السعادة لا تعني المال و..و..و. . سنعطي صديقنا فرصة أخرى لتوضيح وجهة نظره وسنسأله لماذا قررت ذلك؟ كيف توصلت إلى هذه النتيجة؟

لنفترض أن إجابته كانت “هل رأيت مليونيرا حزينا من قبل؟ كل من يمتلكون المال سعداء لأنهم ينالون كل ما يتمنون”.

في الحقيقة صديقنا محق بعض الشيء، المال يجلب السعادة، يعني أن تشتري شيئا تمنيت الحصول عليه كسيارة موديل هذا العام مثلا يجعلك سعيدا بالطبع لكن المال لا يفعل شئيا حيال تساؤلاتك الوجودية مثلا ولن يضمن لك ألا تحزن ولا ألا تمرض ولا ألا تفقد أحبائك ولا ولا … كما أن صديقنا لم ير كل الأغنياء ليعرف أنهم سعداء إذا فما توصل إليه كان ظنيا حتما ويحتمل الخطأ بشكل كبير …

دعونا من صديقنا “الاستقرائي” هذا ولننظر إلى صديق آخر يتبع منهجا مختلفا في تفكيره.. أنتم جميعا تعرفون هذا الصديق أظن أن أغلبنا شاهد فيلم “غبي منه فيه” تذكرون المشهد الذي كان يحاول فيه حسن حسني إقناع هاني رمزي بأن السرقة ليست حرام أو خطأ قال له ببساطة “لو معاك طبق كشري كبير وأنا جيت خدت منه معلقة هتحس بحاجة؟” بغضّ النظر عن إجابة هاني رمزي فإن جملة حسن حسني كانت عبقرية بالفعل هو لم يسرد تلك الأسطوانة المشروخة حول أن الجميع يسرقون و”هي جت علينا ” وو وإلى آخر تلك الاسطوانة المملة.. لقد قام ببساطة بوضع قاعدة كلية بأننا نسرق فاحشي الثراء وبالتالي لن نضرهم في شيء فهم يمكلون الكثير … ليتوصل منها إلى استنتاج وهو أن السرقة ليست عملا مرفوضا.. صديقنا هنا حاول أن يكون “قياسيا” في تفكيره لكن كانت لديه مشكلة صغيرة. ..

المشكلة لدى صديقنا حسن حسني هنا هي أن القاعدة التي استند إليها ليست سليمة لأنك في النهاية أخذت شيئا بالفعل سواء أكان ما أخذت منه كثيرا أم قليلا، كما أنها ببساطة تخالف الكثير من النصوص الدينية التي تحرم هذا الفعل بشكل مطلق دون استثناءات … وبالتالي فاستنتاجه الذي أراد الوصول إليه كان خاطئا… وربما كانت في جملة هاني رمزي بعض الصحة حين رد “طبعا؛ لما أنت تاخد المعلقة أنا هاكل بإيه!!! “..

صديقنا هنا حاول استعمال “القياس” ليصل إلى نتيجة مقنعة لكنه فشل لأنه أخل ببعض الشروط كما ذكرنا في الفقرة السابقة.

نعم “القياس” كما استنتجتم بالضبط … هو أن تضع قاعدة كلية تمكنك بشكل ما من رؤية الصورة كاملة لتصل إلى نتيجة جزئية.

السؤال هنا هل هناك شروط للقياس كي يكون الاستنتاج الذي نصل إليه صحيحا؟ أو بصيغة أخرى كيف يمكن لنا ألا نخطئ خطأ حسن حسني؟

يمكننا عكس الموقف، لنتقمص دور هاني رمزي هنا ونضع أنفسنا أمام تساؤل هل السرقة عمل مرفوض أم مقبول؟

 إذا أردنا الوصول إلى نتيجة باتباع “القياس” علينا أولا وضع قاعدة كلية هذه القاعدة لا بدّ أن تكون صحيحة لأضمن أن يكون استنتاجي صحيحا، السؤال هنا كيف أضمن صحة هذه القاعدة؟

الإجابة ببساطة هي: “أضمن أن تكون القاعدة سليمة حين يوجد دليل يثبت صحتها ” هذا الدليل يمكن أن يكون تجربة علمية سليمة، نصا دينيا صحيحا، مفاهيم بديهية وهي ما يمكن تفصيله في (استحالة اجتماع النقيضين، لكل شيء سبب، الكل أعظم من الجزء، استحالة التسلسل أو الدور).. هذه القواعد يمكنك الاعتماد عليها للتأكد من صحة القاعدة الكلية المطروحة أمامك … حينها فقط يكون الاستنتاج المبني على هذه القاعدة سليم. .

دعونا نعود لدور هاني رمزي والتساؤل الذي يطرحه، هل السرقة فعل مرفوض أم مقبول؟

لو أردنا الإجابة بشكل “قياسي” سليم ستكون الإجابة: “السرقة فعل مرفوض لأن الرسول قال ‘لو أن فاطمة بنت محمد سرقت لقطعت يدها’ وهو حديث صحيح” وبالتالي كانت قاعدتي الكلية تستند إلى حديث صحيح مما جعل استنتاجي صحيح بشكل قاطع. ومن هنا يمكننا الوصول إلى نتيجة أكثر تفصيلا هي أنّ سرقة الغني كسرقة الفقير لأن السرقة محرمة بشكل مطلق والدليل حديث الرسول صلى الله عليه وسلم.

في النهاية أود القول بأننا في حياتنا اليومية نستعمل كلا الأسلوبين بدون أن نشعر لكن معرفة الفرق بينهما وبين النتائج التي نصل إليها باستخدام كل منهما يوفر علينا الكثير من الوقت والأخطاء التي لا يتسع العمر لها.

تسنيم صلاح

باحثة بفريق مشروعنا بالعقل نبدأ بالمنصورة