كيف نرفض ما يحدث في الواقع دون أن ننفصل عنه ؟ وكيف نحفظ إنسانيتنا ؟
الواقع والانفصال
إن المناخ غير الإنساني والوضع غير العادل للعيش، ربما قد يصنع منا وحوشا شرسة على هيئة بشر، يتقاتلون في الحياة وهم يرونها كغابة من أجل الحصول على لقمة العيش، فيتحولون إلى وحوش وآلات من أجل تحصيل المال في محاولة للبقاء على قيد الحياة المادية، أو ربما يصنع منا نوعًا آخر من البشر، وهذا النوع يناقض النوع الأول؛ حيث إنه ينكفئ على نفسه ويهرب من مواجهة شراسة الحياة بالانسحاب والاكتفاء بذاته وبخياله لكي يعيش من دون صراع أو ألم مع الواقع غير الإنساني الذي يفرض عليه.
ولكن كلا النوعين لا ينجو بنفسه من أثر ما يتعرض له في واقعه؛ فالأول يتحول فيه البشر إلى آلات لا تعرف عن المشاعر الإنسانية شيئًا، والثاني يتحول فيه البشر إلى أشخاص منفصلين عن الواقع، الخيال هو بيتهم، والتنظير عن بعد هو ملجؤهم الوحيد.
وثمة مخرج آخر إذا كان لا بد من التعامل مع هذا الواقع الذي يفرض نفسه علينا، فعلينا وقتها أن نرفضه دون أن ننفصل عنه فنصبح غير مكترثين وغير مبالين بالحياة، ودون أن ننغمس فيه ونتشربه فنصبح ظالمين أو غير إنسانيين.
إن الطريقة الأجدى لكي نتعامل مع هذا الواقع الذي لا يتوافق معنا هي أن نواجهه ثم نقتحمه وأن نعلن رفضنا لكل أفكاره غير العادلة وأن نتصدى لها بأفكار منطقية عادلة ونضع لأنفسنا ثوابت ومعايير ثابتة لا نحيد عنها.
إن طريقة مواجهة الواقع المشبع بأوضاع غير عادلة دون الانفصال عنه هي طريقة مكررة منذ آلاف السنين، وقد خاضها الكثير من المغيرين والفلاسفة والمفكرين من أجل رفض الظلم والاستبداد، ومن أبرز من قام بخوضها كان الفيلسوف اليوناني “سقراط” حيث إنه لم يرض بما يحدث في واقعه آنذاك فقام بالاقتحام والمواجهة وأعلن رفضه للأفكار غير العادلة ومحاربتها بالحجة والبرهان وظل ثابتا على مبادئه إلى أن مات فداء لها.
ولنعرض بشيء من التفصيل كيف واجه سقراط الواقع الظالم وكيف نواجهه نحن إذا ما وجدنا أنفسنا يوما ما بداخله ومضطرين إلى العيش فيه.
أولا:- مواجهة واقتحام وليس انسحاب
“لا تجعل أحدا يقحمك في صراعات تجعلك تنسى هدفك وغايتك”
إن أول ما يصنعه الوضع الظالم هو أن يفرض على الإنسان العديد من الصراعات التي تجعله منسحبًا ومنكفئًا على ذاته ولا يستطيع النظر إلى العالم وأحواله من حوله لكي يتفاعل معها ويستجيب لها أو يرفضها فبدلا من أن يتعايش مع الواقع فإنه يعيش في حالة انسحاب ذاتي لحل صراعاته الداخلية ولا يبالي بما يحدث في واقعه من تغيرات وأحداث، فإن أول خطوة لحل هذه المعضلة هي مواجهة الواقع ومحاولة اقتحام أحداثه لفهم ما يسبب منها الصراعات ومحاولة حلها للمضي قدما في الحياة نحو ما ينشده ويريد الوصول له،
وهذا هو ما فعله “سقراط” بالظبط مع مجتمعه، فلما لاحظ انشغال معظم أفراد مجتمعه بلقمة العيش والعمل لتحصيل المال دون غاية، نزل إلى الأسواق وأخذ يحدث الناس عن الغاية من وجودهم، وأن على الإنسان أن يستخدم عقله ليعرف لم هو هنا في هذه الحياة وما الغاية التي جاء من أجلها، ثم بعد أن يعرف تلك الغاية عليه أن يسعى في الواقع ويواجهه من أجل الوصول إليها.
ثانيا: إعلان رفض الأفكار غير العادلة وكشف مدى ظلمها:
“أحيانا قد لا نستطيع ردع الأفكار الظالمة إلا بإيضاح مدى عدم عدلها”
هناك بشر عادلون لا يرضيهم ظلم غيرهم، ولكن في بعض الأحيان قد لا يملكون القوة لرد الظلم، وهنا قد يستخدمون وسيلة هدم الأفكار غير العادلة وتوضيح مدى إجحافها لردع الظلم، وهذا ما حدث تماما مع سقراط فكان يعرف ب “ذبابة الخيل” حيث إنه كان يطرح الكثير من الأسئلة الناقدة وينتظر الرد من محدثه فلم يكن يحاول تعليم الناس عن الظلم أو العدل بشكل مباشر بل على العكس كان يعطي انطباعًا أنه يريد أن يتعلم من محدثه فيجعل الشخص الذي يحدثه يصل للإجابة والمعرفة بنفسه بعد أن يطرح عليه بعض الأسئلة ويتظاهر أنه لا يعرف شيئًا، ثم يرتب الحوار بشكل يجعل المحاور له يجد نفسه محصورا بحيث يضطر إلى التمييز بين الخطأ والصواب، وهكذا كانت تتمثل مهمته في جعل العقول تنتج أفكارا صحيحة عادلة.
وعلى نفس النسق عندما حاكموا سقراط بتهمة تخريب عقول شباب أثينا لأنه كان يحثهم على التفكير العاقل، جادل وتناقش مع هيئة المحلفين التي كانت تحاكمه، فعندما طلبوا منه أن يختار أسلوب العقاب الذي يستحقه، رد عليهم واقترح أنه لا يستحق العقاب بل يجب أن يثاب ويرى بأن حقه أن يحصل على مكافأة وهي أن يعيش بقية حياته على نفقة الدولة كجزاء لما بذل من وقت سعيا لإفادة الأثينيين… وهكذا بمنطقه استطاع أن يظهر عدم عدل من يقومون باتهامه وجعلهم يدركون أن ما يفعلونه ليس الصواب حتى وإن ادعوا ظاهريا عكس ذلك.
ثالثا:- امتلاك أفكار ومبادئ صادقة يفنى الإنسان في سبيلها…
“تسقط الأجساد لا الفكرة”
إن المواجهة باقتحام الواقع والتصدي لتحدياته، مع دحض الأفكار الظالمة وإعلان عدم عدلها قد يصنع فارقا في ردع الظلم والواقع غير العادل ولكن هذا وحده لا يكفي، ومن ثم ينبغي للإنسان أن يكون واقفا على أرض صلبة من المبادئ والمعايير والأفكار حتى لا ينهار أو يجد نفسه واقفا على أرض هشة لا يستطيع التقدم فيها خطوة واحدة، فينبغي على الإنسان امتلاك أفكار منطقية وقوية ومعايير واضحة وثابتة تكون هي أرضه الصلبة إذا اشتدت عليه معركة الحياة،
وفي حياة “سقراط ” نجد ذلك جليا؛ فقد أعدم من أجل أفكاره التي كان ينشرها بين شباب أثينا عن ضرورة وجود غاية للحياة وعن ضرورة استخدام عقولهم في اتخاذ قراراتهم وإيجاد غايتهم، وقد عرض على سقراط قبل إعدامه أن ينجو من الموت مقابل أن يتخلى عن أفكاره وقد روي أنه قد رد عليهم قائلا “لن أرفض فلسفتي إلى أن ألفظ النفس الأخير”.
وهكذا قتل سقراط بعد أن واجه الواقع وغيره فمات فداء لأفكاره التي ظلت من بعده، فسقط جسده ولكن بقيت فكرته .
في النهاية فإن محاولة التصدي لواقع غير عادل دون الانغماس فيه أو الانفصال عنه ليست بالتجربة السهلة ولكنها قد تكون الخيار الوحيد في بعض الأحيان لمحاولة العيش دون أن نفقد إنسانيتنا وعدلنا وقيمنا.
اقرأ أيضا :
ابدأ بالتغيير.. ما هو حل المشكلة ؟ كيف تغير المدرس بعد توبيخ المدير له ؟