مقالاتعلم نفس وأخلاق - مقالات

لا شك أن لدينا عقلا، ولا شك أن لدينا جسد إلخ، لكن لما لا شك؟

لا شك أن هناك وجودا!

ولا شك أن لدينا عقلا يفكر! وإن اتبع القواعد السليمة للتفكير فيمكنه أن يصل للحقيقة! وأن يعرف بعض الحقائق عن نفوسنا وعن الواقع والموجودات من حولنا.

ولا شك أن عقلنا يدرك أمورا غير مادية! مثل معنى الحرية والحب والعدل والتسامح، مما يدل على امتلاكنا جانب غير مادي، هذا الجانب غير المادي هو ما يسمى بالجانب المعنوى أو الروحى.

ولا شك أن لدينا جسدا ماديا! نراه بالحس، وندرسه بالتجربة.

ولا شك أننا يمكننا أن نختار! أي أن نفعل أو لا نفعل! فنحن كبشر نتميز بالسوك الاختياري.

ولا شك أن اختياراتنا وسلوكياتنا تنبع من ميل نفسي أو قرار عقلاني لنا! فالنفس والعقل هما منشأ سلوكياتنا الاختيارية.

اضغط على الاعلان لو أعجبك

ولا شك أن ما نفعله باستمرار يصبح عادة لدينا! ونفعله بعد ذلك بسهولة وبدون تردد نفسى أو تروي عقلى، ويصبح صفة راسخة فينا، هذه الصفات الراسخة في نفوسنا نسميها “أخلاقا”.

ولا شك أننا في اختياراتنا وسلوكياتنا وأفعالنا هذه دائما ما نسعى نحو ما نعتقد أنه الأفضل لنا! أى ما نعتقد أن فيه كمالنا، سواء لحظيا أو على المدى البعيد.

ولا شك أن حصولنا على هذا الأفضل يؤدى للذتنا وبهجتنا بل وسعادتنا!

الأمور المادية و الروحية

وعندما ننظر للأمور التي نعتقد أنها الأفضل لنا أو التي نعتقد أن فيها سعادتنا سنجدها على صنفين فقط! إما أمور مادية خاصة بأجسادنا مثل الأكل والشرب والنوم، وإما أمور معنوية خاصة بأرواحنا وعقولنا مثل البحث عن الحقيقة والعمل طبقا لهذه الحقيقة -وهو ما يسمى بعمل الخير-.

ولا شك أن الأمور الأولى الخاصة بالجسد سريعة الزوال! فلذة الطعام لحظية، ولذة المنظر الحسن سرعان ما تنقلب فتورا ولا مبالاة، والشبع سرعان ما يذهب ونجوع مرة أخرى، ولذة الراحة سرعان ما تنتهي ويعود الإرهاق والتعب وهكذا.

بينما الأمور العقلية و الروحية فمستمرة معنا! فمعرفة الحقيقة والإيمان بها يظل معنا طوال حياتنا ويؤثر في اختياراتنا وقراراتنا ومسار حياتنا للأبد. والشخص الذي يتصف بخلق خيّر كالكرم أو الصبر ينفعه طيلة حياته كلها. كما أن أثر الخير يبقى في المجتمعات البشرية طويلا ولا يزول بسهولة.

بل إن هذه الكمالات العقلية و الروحية آثارها باقية معنا وللأبد بعد فناء الجسد! فإن كان الجسد يضعف بمرور الوقت ويبلى ويفنى في النهاية، فإن الروح ليست جسدية أو مادية فلا تنطبق عليها قوانين الأجساد كالفناء.

ماذا عن الازدياد من كل منهما ؟

وأيضا في الأمور الجسدية إذا قمنا بتجاوز حد معين منها فإنها تنقلب أذى وألمًا وتعاسة! فكثرة الأكل مثلا تؤدى إلى التخمة، وتتسبب في أمراض كالسكر والضغط والقلب والتي قد تنتهي بالوفاة! وكثرة الراحة تؤدي للخمول والكسل، بل وحتى قد تؤدي لضمور العضلات وتقرح الجلد وتخثر الدم! وهناك أمور تؤدى للذّات جسدية بسيطة مع ضرر عظيم مثل الخمور والمخدرات وغيرها، فإن لم يستخدم الإنسان عقله وانقاد خلف الجسد ولذاته؛ فهو يضر عقله وروحه بل وجسده نفسه!

بينما الازدياد من الأمور الروحية والعقلية كالمعارف الحقّة والصفات النبيلة لا ينقلب أذى أبدًا أو ضررًا على الروح والعقل، بل يؤدى لرقيهما وعلوهما وكمالهما ولذتهما وسعادتهما أكثر وأكثر. فالإنسان لا يضره أبدا الازدياد من العلم الحق والمعرفة السليمة، ولا يؤذيه أبدا التحلى بجميل الصفات النفسية والأخلاق الحسنة، بل يزداد بهم رقيا وكمالا وجمالا وجلالا. وهذه المعارف الحقة وهذه الصفات الحسنة يستلذ الإنسان بهم وباكتسابهم وبالعمل بهم ويبتهج ويشعر بالسعادة.

وأيضا في الحقيقة لا نحتاج في الأمور الجسدية إلا لقلة قليلة! فالجسد كل ما يحتاجه بعض لقيمات وقليل من الماء ومأوى وملبس أيا كان نوعهم، وباقى الأمور المادية لا يحتاجها احتياج حقيقي!

بينما معرفة الحقيقة والتحلى بالصفات الحسنة يحتاج الإنسان إليهما باستمرار احتياج حقيقي! فبدون أى معرفة عن الواقع وحقيقته من حولك قد تهلك وتموت! وقد تفقد حتى مالك وكل الأمور المادية والجسدية التي تفخر بها! وبدون المعارف السليمة وعمل سلوكيات حسنة وخيّرة لا تستطيع التطور والتقدم في حياتك، أو حل مشكلاتك، أو التعامل مع الناس، أو الوصول لسعادتك الحقيقية.

كيف نصل للسعادة ؟

بل كيف تصل للسعادة دون أن تعرف أولًا كيفية الوصول إليها؟! ففى كل خطوة في حياتنا نحتاج لمعرفة حقة وسلوك في اتجاه ما عرفته، هذا السلوك المسترشد بمعرفة الحق هو السلوك الخيّر في الحقيقة كما سبق.

فالإنسان يحتاج للمعرفة والسلوك الحسن دائما كى يتطور ويتقدم، وكى يرتقى ويسمو، وكى يصل إلى اللذة والسعادة في حياته وما بعدها للأبد. وكل معرفة جديدة وسلوك خيِّر جديد يفيده إفادة جديدة، وإن ترك عقله وروحه دون ازدياد يشعر بالاضطراب والأذى والألم.

أيضا الأمور الجسدية يشترك فيها الإنسان مع الحيوان! بينما الروحية والعقلية ينفرد ويتميز بها، وقيمة كل شيء وغايته وسبب وجوده يظهر فيما يتفرد ويتميز به، وبالتالى فإن اكتساب الكمالات الروحية والعقلية هو ما يميز الإنسان، فلأجلها خُلق، وهي سبب وجوده، وغاية حياته أن يكتسب تلك الكمالات، أى أن يستخدم روحه وعقله على الوجه الأمثل.

أيضا إن اتَّبع الإنسان العقل فهو لا ينسى الجسد! بل يحكم بتوفير احتياجات الجسد دون إفراط أو تفريط، بينما الجسد إن انغمس فيه الإنسان فهو يهمل العقل والروح تماما!

الكمال الحقيقي

هذا كله يجعلنا نحكم ببساطة أن الكمال الحقيقى للإنسان هو الكمال العقلى والروحى! وأن اللذة والبهجة والسعادة الناتجة عن هذا الكمال هي سعادته الحقيقية! وبالتالى عندما يجد الإنسان نفسه في مواقف يختار فيها بين الجانبين ؛فيجب أن يختار سعادته الحقيقية، بل إن هذا هو عين الاختيار الإنساني، أن يختار بين الجسد والروح.

فببساطة إذن هناك وجود وكمال، والإنسان يستطيع بعقله معرفة حقائق عن الوجود والكمال قدر استطاعته، كما يطلب بسلوكه الاختياري الكمال، وسلوكه هذا منشؤه النفس والعقل، وممارسة سلوك معين باستمرار يصبح عادة عند الإنسان وهيئة نفسية راسخة عنده، هذه الهيئات النفسانية الراسخة تُسمى بالأخلاق.

والكمال الإنساني إما أن يكون جسديا أو عقليا وروحيا، والكمال الحقيقى للإنسان هو العقلى والروحى كما سبق توضيحه، وبالتالى فالخلق الحسن هو ما يكون دافعه عقليا ويطلب الكمال الحقيقى للإنسان.

والكمال ينعكس على النفس لذة وبهجة وسعادة، وبالتالى فالسعادة الحقيقية للإنسان تكون بمعرفة الحق واكتساب الأخلاق الحسنة، بينما اللذات الأخرى فسريعة الزوال وقد تنقلب على الإنسان أذى.

هذه هي الرؤية البسيطة والمعتمدة على البداهة وعلى العقل للأخلاق، والتي يتبناها المنهج العقلي هي وتفصيلاتها المتنوعة والكثيرة. لكن هناك رؤى أخرى للمناهج غير العقلانية عن الأخلاق، فما هي هذه الرؤى؟ لهذا مقال آخر إن شاء الله.
“لقراءة الجزء الثاني من هنا”

لقراءة المزيد من المقالات يرجى زيارة هذا الرابط.

ندعوكم لزيارة قناة أكاديمية بالعقل نبدأ على اليوتيوب.

 

أحمد عزت

د. أحمد عزت

طبيب بشري

كاتب حر

له عدة مقالات في الصحف

باحث في مجال الفلسفة ومباني الفكر بمركز بالعقل نبدأ للدراسات والأبحاث

صدر له كتاب: فك التشابك بين العقل والنص الديني “نظرة في منهج ابن رشد”

حاصل على دورة في الفلسفة من جامعة إدنبرة البريطانية

حاصل على دورة في الفلسفة القديمة جامعة بنسفاليا