مقالات

كيف تشكل اللغة أفكارنا؟!

تعمل الكلمات كروابط لإدراكات متباينة، ما يسمح لنا بتجميع التجارب الحسية المختلفة تحت مُسمىً واحد. ينطبق هذا بشكل خاص على المفاهيم التي تُشير إلى أشياء يمكننا رؤيتها أو لمسها، لكننا ما زلنا لا نفهم حقًا كيف تعمل اللغة في تشكيل معنى المفاهيم الأكثر تجريدًا، أو كيف تسمح لنا بتجميع الخبرات معًا تحت مظلة مصطلح واحد يشير إلى شيء لا يمكننا الإشارة إليه أو رؤيته أو لمسه. هذا ما تناقشه “ماريانا مارسيلا بولونيسي” (Marianna Marcella Bolognesi)، الأستاذ المشارك بقسم اللغات والآداب والثقافات الحديثة بجامعة بولونيا، في مقال لها تحت عنوان: “كيف تُشكل اللغة أفكارك؟ – ما يعرفه الباحثون” (How Language Shapes Your Thoughts – What Researchers Know)، نُشر بموقع “ذا كونفرسيشن” (The Conversation) بتاريخ 26 يوليو 2018.

في البداية، تُشير ماريانا إلى أن المفاهيم الملموسة مثل “موز”، والمجردة مثل “حرية”، تختلف عن بعضها البعض من نواحٍ عديدة. ولفهم هذا الاختلاف، قم بالبحث في صور جوجل عن الكلمات: “موز” (Banana) و”حرية” (Freedom)، ووقارن الصور التي يعرضها المتصفح بالنسبة لكلمة «موز»، ستجد صورًا متشابهة تمامًا مع بعضها البعض لثمار الموز. أما بالنسبة لكلمة «حرية»، فسوف تجد أشكالاً مختلفة جدًا من الصور التي يبدو أن ثمة قليلاً من القواسم المشتركة فيما بينها.

على نحو أكثر وضوحًا وتفصيلاً، نستطيع القول إن التجريد هو العملية التي نستخرج بها المعرفة حول فئة معينة من الأمثلة المُكتسبة عن طريق الخبرة، وتشكيل فئة أعلى وأكثر عمومية، على سبيل المثال، مفهوم “الأثاث” يُمثل فئة متنوعة تشمل الطاولات والكراسي ورفوف الكتب، وما إلى ذلك، وهذا تجريد يُنتج ما نسميه “المفاهيم الملموسة”. لكن التجريد يشمل أيضًا مجموعة من المفاهيم التي لا تحتوي على أشياء أو كيانات ملموسة يمكن إدراكها مباشرة بحواسنا، مثل المفاهيم الدالة على الإبداعات البشرية (نظرية، مناظرة، نقاش)، والتركيبات الاجتماعية (منظمة، حزب، حكومة)، والقيم الأخلاقية (احترام، عدالة، حق) والمشاعر الداخلية (طموح، حماس، يأس)، والحالات العاطفية (سعادة، غضب، مرونة)، إلخ، وتلك هي المفاهيم الأعلى تجريدًا، والتي سنسميها اختصارًا “المفاهيم المجردة”.

ثمة مجموعة كبيرة من الدراسات العلمية حول الفرق بين المفاهيم الملموسة والمفاهيم المجردة، منها تلك التي أجراها “جيفري بيندر” (Jeffrey Binder)، أستاذ طب الأعصاب والفيزياء الحيوية بكلية الطب في ويسكونسن (Wisconsin) في الولايات المتحدة، بمشاركة آخرين، ونُشرت في مجلة “علم الأعصاب الإدراكي” (Journal of Cognitive Neuroscience، في يونيو سنة 2015) تحت عنوان: “أنظمة دماغية متميزة لمعالجة المفاهيم الملموسة والمجردة” (Distinct Brain Systems for Processing Concrete and Abstract Concepts). وقد أظهرت هذه الدراسة أن المفاهيم الملموسة يسهل تعلمها وتذكرها أكثر من المفاهيم المجردة، إذ كشفت الدراسات السريرية التي أجريت على المرضى الذين يعانون أضرارًا في مناطق معينة من الدماغ، أن بعضهم يفقد القدرة على فهم واستعادة المفاهيم المجردة، بخلاف المفاهيم الملموسة، وذلك لأن كِلا النوعين من المفاهيم: المجردة والملموسة، تُعالج في مناطق دماغية مختلفة، وإن كانت متداخلة.

مع ذلك، وعلى الرغم من هذه الاختلافات الموثقة، وعلى الرغم من حقيقة أن نحو سبعين في المائة من الكلمات التي نستخدمها يوميًا تشير إلى مفاهيم مجردة، فإن معظم النظريات العلمية التي تتناول السؤال الكبير حول كيفية عمل اللغة في الدماغ، تستند إلى تحليلات للكلمات التي تدل على مفاهيم ملموسة فقط.

اضغط على الاعلان لو أعجبك

يبدو السبب واضحًا: تخيل أجنبيًا جاء من الفضاء الخارجي وأراد أن يتعلم لغتك. بإمكانك أن تُريه ثمرة موز في أثناء تهجئة كلمة “موز”، وبعد تكرار ذلك عدة مرات تعلق الكلمة إشارة لثمرة الموز في ذاكرة الكائن الفضائي. لكن كيف يُمكن أن نُعلم هذا الكائن معنى “الحرية”؟ لا شك أن شرح كيفية تشكيل تجاربنا اليومية لمعنى المفاهيم أمر مهم، وهو ما يبدو جيدًا فيما يخص المفاهيم الملموسة، فالألوان والأشكال والنكهات والأصوات والروائح، وكل ما ندركه بحواسنا، يُسهم في تشكيل معنى المفاهيم الملموسة. لكن ما لون “الحرية” أو شكلها؟ ما نوع الخبرة التي يمكن أن تمثل معنى “الحرية”؟ وإذا كانت خبراتنا الجسدية لا تُسهم مباشرة في تشكيل معاني المفاهيم المجردة، فكيف نكتسب المعرفة بتلك المفاهيم؟

كيف تُصنع المفاهيم؟

يدور نقاش أكاديمي كبير حول هذا الموضوع، وثمة مدرستان فكريتان رئيسيتان في هذا الصدد: الأولى تُسمى مدرسة “الإدراك المؤصَّل” (Grounded Cognition)؛ الإدراك القائم أو المُستند على خبرات أساسية، والثانية تُعرف باسم مدرسة “الإدراك الرمزي” (Symbolic Cognition). تفترض المدرستان أننا نفهم ونمثل جميع المفاهيم، سواء أكانت ملموسة أو كانت مجردة، وفقًا للمبادئ الأساسية ذاتها، أما الاختلاف فيكمن في نوع المعلومات التي تنقلها هذه المفاهيم.

يذهب أنصار معسكر «الإدراك المؤصَّل» إلى أننا عندما نسمع كلمة «موز»، نقوم تلقائيًا بتنشيط معلوماتنا حول اللون والطعم والملمس وما إلى ذلك في أذهاننا، وهي معلومات مستمدة من خبراتنا السابقة إزاء ثمار “الموز”. أما كلمة “الحرية”، فنحن ننشط الحالات أو المواقف التي عايشنا فيها “الحرية”، لكن التركيز هنا يكون على المشاعر التي أثارتها هذه التجارب الحياتية، وعلى الديناميكيات بين العناصر التي تنطوي عليها مثل هذه المواقف، وليس على الخصائص الإدراكية للكيان المعني.

من جهة أخرى، يقترح أنصار معسكر «الإدراك الرمزي» أن المفاهيم يتم تمثيلها في أذهاننا من خلال رموز غير مرتبطة بخبراتنا. ووفقًا لهذا الرأي، عندما نسمع كلمة “موز”، فإننا لا نحاكي أي شيء مشتق من خبراتنا السابقة، لكننا بدلًا من ذلك نفهم معناها بتجميع أجزاء من المعلومات عبر رموز مجردة (مثل الأصفار والآحاد التي يعمل بها الحاسوب). ومعنى هذا أن العقل يعمل وفقًا لرموز عقلية مثل الحاسوب تمامًا، دون إعادة تمثيل الخبرات السابقة مع هذه المفاهيم في كل مرة، وهذا هو الحال فيما يخص كلًا من المفاهيم الملموسة والمجردة.

طريقٌ ثالث

على الرغم من ذلك، ثمة مشكلة تواجه المدرستين، لأننا إذا سلَّمنا بوجود اختلافات شاسعة بين المفاهيم الملموسة والمجردة كما رأينا أعلاه، فمن المؤكد أنه لا ينبغي أن يكون مفاجئًا إذا عولج هذان النوعان من المفاهيم بطرقٍ مختلفة في أذهاننا. إن طبيعة المعلومات المشتقة من اللغة في تشكيل معرفتنا بالمفاهيم لا تزال غير واضحة، الأمر الذي يثير تساؤلات من قبيل: هل اللغة ضرورية بالفعل لتشكيل، ودمج، والتعبير عن أفكار معقدة لا يمكن اكتسابها من التجارب الإدراكية؟ هل ثمة نوع من المعلومات السيمانطيقية التي تحملها اللغة تحديدًا ولا تحملها التجربة الإدراكية الحسية؟) بمعنى آخر، هل تبني اللغة معنى يتجاوز المعنى الذي يمكننا بناؤه من التجارب الإدراكية؟

تُحيلنا “ماريانا بولونيسي” في هذا الموضع إلى دراستها التي جاءت تحت عنوان: “المفاهيم المجردة: البنية والمعالجة والنمذجة” (Abstract Concepts: Structure, Processing, and Modeling)، نُشرت كمقدمة لتحرير إحدى أعداد مجلة «موضوعات في علم الإدراك»” (Topics in Cognitive Science 2018)، وفيها تشير إلى أن معنى الكلمتين “موز” و”حرية” قد يتكونان من مزيج من المعلومات التي نسترجعها من قنوات مختلفة. وعلى نحوٍ أدق، في حين أن الخبرات الإدراكية تشكل المكون الرئيس لمعنى “موز”، فإن اللغة المكون الرئيس لبناء معنى كلمة “حرية”، فاللغة أداة قوية يمكن استخدامها في تطويع الخبرات وابتكارها وتغييرها.

بعبارة أخرى، نحن كبشر نبني المعنى باستخدام اللغة، فالكلمات ليست مجرد تسميات نُعلقها على المفاهيم والأفكار التي يُتلاعب بها وتُدمَج على مستوى معرفي أعمق، لكنها أيضًا تبني المعنى، وتسمح لنا بتكوين الأفكار المعقدة ودمجها وتفصيلها، التي كان من المستحيل التعامل معها لولا اللغة. وفي حين أن المفاهيم الملموسة مصنوعة أساسًا من المعلومات المستمدة من الخبرات الإدراكية، فإن المفاهيم المجردة مصنوعة أساسًا من اللغة. وعلى هذا النحو، تمثل المفاهيم المجردة الإنجاز الأعلى والأكثر تعقيدًا في تطور اللغة، وربما نقطة تحول رئيسة في تطور البشرية.

المصادر:

Binder , J. R., Westbury,, C. F., McKiernan, K. A., Possing, E. T., & Medler, D. A. (n.d.). Distinct Brain Systems for Processing Concrete and Abstract Concepts. Journal of cognitive neuroscience. Retrieved March 3, 2023, from https://pubmed.ncbi.nlm.nih.gov/16021798/

Bolognesi, M., & Steen, G. (2018, January 22). Editors’ Introduction: Abstract Concepts: Structure, Processing, and Modeling. Wiley Online Library. Retrieved March 15, 2023, from

https://onlinelibrary.wiley.com/doi/10.1111/tops.12354

Bolognesi, M. (2018, July 26). How Language Shapes Your Thoughts – What Researchers Know. The Conversation. Retrieved March 3, 2023, from https://theconversation.com/how-language-shapes-your-thoughts-what-researchers-know-96047

Hoffman, P. The Meaning of ‘Life’ and Other Abstract Words: Insights from Neuropsychology. Journal of Neuropsychology. Retrieved March 3, 2023, from https://pubmed.ncbi.nlm.nih.gov/25708527/

مقالات ذات صلة:

اللغة والطبيعية.. هل ثمة علاقة؟

اللغة وفلسفتها

الفكر أم اللغة – هل للغة علاقة بصناعة الفكر؟

* تنويه: الأفكار المذكورة في المقال لا تعبر بالضرورة عن رأي الموقع.

_________________________________

لمتابعة قناة اليوتيوب لأكاديمية بالعقل نبدأ، اضغط هنا

لقراءة المزيد من المقالات، اضغط هنا

أ. د. صلاح عثمان

أستاذ المنطق وفلسفة العلم – رئيس قسم الفلسفة – كلية الآداب – جامعة المنوفية