كل شهورنا رمضان وكل أيامنا أعياد.. أياًم عطرة تفوح رائحتها طوال السنة
رمضان شهر البركة
والله لسه بدري والله يا شهر الصيام… أغنية تشعرك بحالة من الشجن وتقلب في ذهنك ذكريات الأيام والليالي العطرة، التي غادرت كما الطيف السريع، ولكن لعل من رحمة الله بعباده أنه جعل لعباده الطائعين المقبلين على ساحته -في تلك الأيام المتعرضين لنفحاته ما بين صيام وقيام وتدبر ومناجاة وتصدق وفِكر وذِكر- فرحة العيد.
وللعيد معنى؛ ففيه الفرح، والتوبة، والطاعة، والتكافل، والكرم، والهدية، والصدقة، وصلة الرحم، … ولكن هو أيضا يوم الجائزة لمن سمت روحه وقويت عزيمته؛ فهو عيد قوة الروح وسيطرتها على شهواتها وغرائزها، هو عيد انتصار الإرادة بالبعد عن المباح والحلال قبل الحرام امتثالا لأمر الله ولا أحد غير الله، هو عيد انتصار الروح على المادة، هو عيد… وكل يوم لا نعصي الله فيه فهو عيد.
أما أولئك المتذمرون من ثقل الشهر الكريم المتشوقون للحظة فراقه! فبأي عيد تفرح؟! هل كان رمضان سجنا ما فتئت أن تتحرر منه حتى تعود لسيرتك الأولى من فك لجام الشهوات وإطلاق العنان للألسن والأبصار والعيش بنفس الحال التي كنت عليها قبل رمضان؟! فاعلم أن هذا العيد ليس عيدك، وحق لك أن تعاتبه: بأي حال عدت يا عيد؛ فيوم العيد هو الأشبه بقيامتنا يثاب فيه المحسنون ويخسر المسيئون؛ مثلما كانت ليلة القدر جزاءً لمن اجتهد وواصل وثابر. فليس العيد لمن لبس الجديد، وإنما العيد لمن تزود قلبه بخير زاد، واستعدت روحه ليوم المعاد.
والأشد عجبا أن يكون الاحتفال بشهر الروحانيات هو تقليد أعمى لمجتمعات الماديات، فتصبح ليلة العيد هي ليلة الأنس والشرب والغياب عن الوعي، أو على أقل تقدير ليلة تكريم المادة وانحسار الروح، انتظارا لموعد بزوغها في رمضان القادم، وكأن آخر ليلة من رمضان كانت عهدا بنهاية مرحلة العبادة، والولوغ في الدنيا ابتهاجا بتجاوز سجن العبادات! بدلا من أن يرمي الإنسان بنفسه في مدارك الرحمة الإلهية فيحي ليلة العيد ليحيا قلبه، وليرى العالم كيف جعل منا رمضان مجتمعات أخلاقية، مبادئية، تواقة لأن يكون العيد عيدا للعالمين، فالمسلم الذي اختار الجوع الاختياري وشارك الفقير في الجوع والعطش لا يصح له ألا يشارك الفقير بعد رمضان بالأكل والشرب واللبس، بل يريد أن ينشر العدل في جميع الأرض حتى لا يجوع فقير بما تمتع به غني.
فهناك من الناس من يكاد شهر رمضان أن يحزن على فراقهم، بل ويدعو أن يبلغه ربه عبادة العابدين، وقيام المتهجدين، وصيام الورعين، وتلاوة الذاكرين… فهنيئا لك يا من صمت صيام الخواص فصامت نفسك قبل جوارحك، وتصدقت فكنت كالريح المرسلة، وأدبت نفسك حتى خرجت من رمضان بملكات غير التي كنت عليها، ويا فرحة من قام الليل حتى ذاقت روحه حلاوة المناجاة… فهذا هو عيدك، وقلبك في ليلة العيد هو الذي يكبر ويحمد قبل أن ينطق لسانك سعادة فرحا بصنيع الروح في تلك الأيام.
أما أنت أيها المقصر، فالبدار البدار… فرب رمضان هو رب شوال، ولعل ليلة قدرك هي الليلة التي تقدر فيها أن تنتصر على شهواتك، وتهذب فيها ملكاتك السيئة وتبدلها وتهذبها، فقط. انوِ من الليلة أن تعيد الروح لكمال لذتها وتعلو بها في معراج سعادتها، ابدأ ختمة قرآنك من الآن، واقرأ القرآن وكأنه عليك أنزل، قف مع الفقير والضعيف والمظلوم، فنصرة الحق لا تحتاج لشهر، بل تحتاج لقلب حي، ونفس زكية تحررت من الأنانية، وأحبت الخير للناس أجمعين، ووقتها ستكون شهورك كلها رمضان، وأيامك كلها أعيادًا.