السعادة كلمة جميلة وكحالة فهى أجمل فالبشر على اختلاف أساليبهم وسلوكهم واعتقاداتهم وأزمانهم وأصولهم يتفقون على أن السعادة هى هدفهم فكل فرد يسعى بشكل تلقائى نحو تحقيق السعادة والكمال ولا يستطيع الإنسان السكون أو الشعور بالرضا ما لم يصل إلى كماله الذى رسمه لنفسه. ولكن لتحقيق شئ ما لا بد أولا من أن نفهم معنى هذا الشئ ونعرف ما هى شروط تحقيقه وكيف نوفى هذه الشروط لكى نصل إليه وإلا أصبحنا نسعى إلى تحقيق شئ مجهول لعقولنا ولن نستطيع الوصول.
وحيث أن الساعى نحو هذا الكمال هو الإنسان فإن الإجابة على هذه الأسئلة تبدأ من معرفة الإنسان ومعرفة حاجاته الحقيقية وإلام يفتقر؟! إن الإنسان عبارة عن روح وجسد أى أن له جانبين جانب معنوى وجانب مادى وكلا الجانبين لهما متطلباتهما ويحتاج إلى قدر من الإشباع لهذه المتطلبات بشكل لا يضر بالحالة السوية للإنسان، فكيف نحقق حالة التوازن هذه؟
كثيرة هى العبارات التى تطالب الإنسان بكبح جماح شهواته وغرائزه والترفع عن حب الدنيا حتى أصبحنا نشعر بأننا فى سجن جدرانه مكونه من شهواتنا التى لا نستطيع الهروب منها وبسبب الفهم الخاطئ لكيفية ترويض هذه الشهوات أصبحنا نقع فى حالة إما من الإفراط أو التفريط وكلاهما خاطئ فالله عندما خلق الكون لم يجعل هناك ثنائية فى العالم فليس الأمر إما الانقياد الأعمى وإما الحرمان التام فليس على هذا النحو تُحل القضايا.
فإن عاطفة حب متاع الدنيا عاطفة فطرية فى الإنسان وضعها فيه الخالق، والخالق لا يخلق شيئا عبثا؛ وبناءً على هذا فالتساؤل حول وجود علاقة بين سعادة الإنسان وميله نحو متاع الدنيا سيقع تحت عنوان تحصيل الحاصل والذى هو باطل، ولكن السؤال الذى يجب طرحه هو كيف يجب أن تكون علاقة الإنسان بالدنيا وكيف يُروض الإنسان شهواته لتحقيق سعادته.
كما ذكرنا أن الإنسان له جانب معنوى وجانب مادى وكلاهما له متطلبات ويجب إشباعها بقدر؛ فالجانب المادى يتم إشباعه بالطعام والملبس والزينة والمال وهكذا وهذا ما يطلق عليه كمالات وهمية بمعنى أنها توهم الفرد بأنها سبيل سعادته وكماله ولكن سرعان ما يكتشف الفرد أن الانبساط الناتج عنها مؤقت وأنه مهما استزاد منها فلن يشعر بالسعادة أو الانبساط مجددا بل وعندما يفرط فيها تسبب له الضرر
أما الجانب الروحى أو الملكوتى فإشباعه يكون بالتزود من بحور العلم والمعرفة والأخلاق والتقرب من خالقه والمنعم عليه بالوجود وهذه هى الكمالات الحقيقية التى تهب السعادة الدائمة وتنطلق بالنفس إلى حالة من اللذة اللامتناهية وكلما استزاد منها الإنسان ازداد اقترابا من كماله الحقيقى.
إننا نتخيل دائما أن العلاقة بين الروح والبدن هى علاقة الألم باللذة، ولكن ليس كل ما هو متعلق بالروح ألم ولا كل ما هو متعلق بالبدن لذة كما وضحنا، فالإنسان عليه أن يعرف كمالاته الحقيقية ويمنحها القدر الأكبر من اهتمامه ويتزود من كمالاته الوهمية بالقدر الذى يضمن له سلامة بدنه واستقرار نفسه.
فالروح والبدن ليسا متنافرين طالما أن كل منهما وُضع فى الإطار الطبيعى له، فلو وضعا فى منزلة واحدة كنِدِّين حتما سيحدث التنافر وسيخرج الإنسان عن حالته الطبيعية، أما لو وضعا بمنزلة التابع والمتبوع والهدف والوسيلة فالهدف هو الكامل وهو الكمالات الروحية الحقيقية والوسيلة هى الناقص وهى الكمالات المادية ولو كان الناقص هو الهدف لزم الحرمان من الكامل أما لو كان الكامل هو الهدف لزم الاستفادة من الناقص للوصول للكامل.
ونرى البعض يقولون بأن الشخصية فى الإنسان تساوى العصيان والتمرد على جميع القيود بلا استثناء ويرون أنه كما أن تعلق الإنسان بالمادة يسلبه حريته ويؤثر على نفسه فإن سعيه نحو معرفة خالقه والتقرب منه أيضا شئ يصرفه عن نفسه ويتطلب منه قدر من التسليم يتنافى مع حريته وكماله، وعندما ننظر إلى هذا الكلام نجد أنهم يريدون جعل الشخصية الإنسانية مستقلة عن كل شئ وكأنها وجدت من لا شئ ووجدت للاشئ وعدم ارتباط الإنسان بشئ يسعى نحوه يستلزم منه السكون والتوقف عن التقدم وهذا ما يتنافى مع الكمال؛ فالكمال هو الحركة الدائمة نحو الأفضل كما أنه محال فصل معلول عن علته وحيث أن الله هو علة الوجود وكل موجود؛ فلزم على الإنسان التحرك نحو العلة الأولى لبلوغ أقصى درجات الكمال.
إن الهدف من كل ما سبق توضيح أمرين وهما:
إن المذموم ليست العلاقة الطبيعية للإنسان بالمادة ومتاع الدنيا، ولكن المذموم هو تعلق الإنسان بالمادة حتى ينسى نفسه ويسير فى الطريق الخاطئ ويجور على كماله الحقيقى.
وأن تكامل الإنسان هو أن يتحرك فى مداره الطبيعى المخصص له لا فى مدار آخر يهبط به إلى مدارات الحيوانات التى تحكمها شهواتها ولا أن يتحرك خارجا عن كل مدار فيقع فى حالة هرج ومرج؛ فمداره الحقيقى هو نحو الكمال المطلق نحو من إليه المنتهى.