الصيام متعب؟ إذا فلماذا علينا تحمل مشقة الصيام؟
النقاش الجرئ
طوال عمري لم أكن أتصور في الحقيقة أن يتأفف بعض المسلمين من قدوم شهر رمضان، أو أن يصبح الضجر العلني من فريضة الصيام –على ما فيها من مشقة بالطبع- على هذا النحو من الوضوح والصراحة وفي بعض الأحيان من التباهي والفخر بطرح الموروث للنقاش العام أيا كانت درجة قدسيته بل وأحيانا بالسخرية والتهكم ، ولكن لعل هذا النقاش الجرئ وغيره من الأطروحات الفكرية والسياسية والاجتماعية والتي لم تكن معروضة بهذا الشكل أبدا قبل ذلك -من العوام وعلى العوام فضلا عن المثقفين- وبهذا القدر من الجهر والصراحة هو واقع فرضته وسائل التواصل الاجتماعي بعد ثورات الربيع العربي، والذي يزداد سنة بعد سنة جرأة ويقهر مساحات لم تكن مسموحة.
موضوع النقاش : استنكار العبادات
بدأ البعض غمار هذا النقاش –على مواقع التواصل الاجتماعي – من مسلمة أن الصيام قد فرض لكي يحس الأغنياء بالفقراء، ثم أتبعوها مستنكرين: فلم يصوم الفقراء إذن؟!
أو أن الفقراء يشربون الماء فلم نصوم عن الطعام والشراب معا؟!
أو كما قال أحدهم معمما قضية العبادات والأخلاق:
” على فكرة الزنا جميل جدا لأن الشهوة الجنسية من أعظم الشهوات عند أى إنسان عاقل.. الصيام مرهق ومتعب والناس بتبقى طهقانه طول اليوم مش مستمتعة ولا حاجة.. الصلاة مرهقة ولو ماكنش فيه صلاة كان أفضل وأريح بكتير.. انك تتعب وتشقى وتشتغل وييجى واحد فقير على الجاهز ياخد جزء محدد (يعنى مش بتحدده بمزاجك وعلى حسب تعاطفك) من فلوس تعبك وشقاك ويسميها “زكاة” حاجة مرهقة على النفس جدا…
الفلوس حلوة حتى لو من القتل أو السرقة أو أكل مال اليتيم، وهتعيش بيها سلطان زمانك، فمش لازم تكذب وتلوّن الحقايق عشان تبان متدين وعارف ربنا وتدّعى انك مبسوط بالتكتيفة والخنقة والضيق اللى ف كل العبادات، وإحنا صابرين عشان ربنا بس. فتقبل تعبنا ده عندك”.
النظرة المادية للسعادة
وهنا يتجلى بشكل كبير التوافق الكبير بين الماديين وأصحاب المدرسة النصية؛ فالماديون هنا يزعمون أنهم لا يرون السعادة إلا في المحسسوسات فحسب، فالزنا شئ عظيم، والسرقة حلوة محروم من متعتها المتدينون، وأكل مال اليتيم له لذة لا يعرفها إلا من ذاقها، والغريب أن قولهم يخالف أصل الفطرة الإنسانية أصلا، فكم من ملحدين ولا دينين –فضلا عن المؤمنين من غير المتدينين- بذلوا من أوقاتهم وأموالهم في مساعدة الفقراء والمساكين لا لشئ إلا ليروا بسمة قد رسمت على شفاه المحرومين، وكم من منحلين ضحوا بأرواحهم فداء لنصرة المستضعفين إعلاء لقيم العدل والحرية من غير أن يروا تلك الأوامر في كتاب مقدس،
لأن السعادة الحقيقية تتجلى في هذه القيم، وما المقاصد الإلهية واالتنبيهات الدينية إلا تذكرة وتشجيعا للفطرة الإنسانية التي جبلت على حب الخير، وتفصيلا لموارد الخير ومواطنها، وليحث بها الغافلين ويذكر بها المؤمنين، أما ترك العنان للشهوات والغرائز فلن يتحصل منها الإنسان إلا على نشوة لحظية وكمالات وهمية وتسافل في “الأرواح” والتي هي أصل ومنبت السعادة الحقيقية.
ارتفع من خلال المعاناة
إن الإنسان الباحث عن الحقيقة قبل أن يناقش تفاصيل العبادات الفرعية لا بد له أولا أن يسأل نفسه أولا: ماهي تصوراته عن الإله؟ هل الإله خلقنا ليعذبنا أم ليرحمنا؟ هل نهانا عن المحرمات حرمانا لنا من لذاتها، أم عونا لنا أن نصل إلى كمالاتنا؟ بل هل الإنسان مادة فقط أم روح تحتاج إلى مادة لترقى بها؟ هل كليات الأخلاق أمور نسبية لا يعرف الإنسان جميلها من قبيحها وينتظر النص المقدس ليحدد له أن الزنا والكذب والخيانة وأكل أموال الناس بالباطل حرام حتى يبتعد عنها وهو متأفف، كما قال النصيون من قبل أن الحسن هو ما حسنه الشرع والقبيح هو ما قبحه الشرع، لينتظر النصي نصًّا يبيح له ذبح الرجال واغتصاب النساء فيفعل، وينتظر المادي نصا يبيح له الزنا والخيانة فينطلق في غمار التسافل الإنساني ظنا منه أنه سيسعد!
ربما تكون بعض العبادات كالصيام شاقة على الإنسان أثناء معراجه؛ آملا الوصول لأن تصبح كل عبادة هي قرة عينه، ولكن على المرء أولا أن يدرك حدود عقله، فالعقل الذي وصل إلى الله وعرف علمه ورحمته وعدله وعظيم صفاته، سيعبد الله امتثالا لأوامره التي لا تخالف عقلا برهانيا، وليعلم ثانيا أنه لن ينال العبد من فيض إلهام مولاه ومعرفة بحكمة تشريعاته إلا بمقدار ما امتثل لأوامره بروحه وبدنه، فمن صام عن الطعام والشراب فقط لن يجد إلا الجوع والعطش، ومن صامت جوارحه وشهواته عمّا حرم الله، وتحرر من أعباء جسده سيعلم حينها أن الإنسان يرتفع من خلال المعاناة، وينحط بالاستغراق في المتع، وقد يصل حينها لمعنى قول العارفين: صيامي هو الإمساك عن رؤية السِّوَى.. وفطري أنى نحو وجهك راكع.
مزيد من مقالاتنا
لقراءة المزيد من المقالات يرجى زيارة هذا الرابط.
ندعوكم لزيارة قناة أكاديمية بالعقل نبدأ على اليوتيوب.