الهمجية الجديدة
الهمجية بمعناها الحرفي، هي صفة أن تكون متوحشًا أو جامحًا، بينما يبدأ الفيلسوف “ميشال هنري” من حيث انتهت الفيلسوفة “حنة آرندت”، في ختام كتابها “أزمة الثقافة” بإبدائها الشكّ في صوابية مسار البشرية نحو اكتساح الفضاء، وفي أنّ التقدّم العلميّ الذي أحرزته الشعوب المتحضرة، سوف يفضي إلى “تدمير البعد الإنساني” المأمول منه.
كتاب الهمجية تأليف ميشيل هنري
في كتابه “الهمجية” (أو البربرية) الصادر حديثًا عن دار الساقي (2022) في ترجمته العربية التي أنجزها جلال بدلة، يسائل الفيلسوف هنري عن الرابط بين كلّ من الثقافة والهمجية والعلم والتقنية المعاصرة.
يبيّن ميشال هنري كيف أنّ العلم الحديث، في كلّ اختصاصاته، سواء العلمية البحتة منها، أو الإنسانية، صار يستبعد أساسَ القيَم والثقافة من متون هذه العلوم، بدعوى التزام الموضوعية العلمية الصارمة والقابلة للقياس والتكميم والمعادلات الرياضية.
بهذه الحجّة جعل العلم الحديث هذا يستبعد مجموع القيَم والمثُل والإجراءات الفردية والجماعية الفنية والجمالية والدينية وغيرها، من ميزانه. فصار علمًا محضًا، مجرّدًا من الأهداف.
بربرية مقابل الإنسانية
كذلك على صعيد آخر نجد أن انتهاك حقوق الإنسان والتلاعب بها تحت أي مسمى همجية معاصرة بمسميات مختلفة، فإن جحود حق الإنسان في الحياة والعقيدة والتعليم والكرامة والعدالة والمساواة– بربريةٌ مقابل الإنسانية.
هذا الجحود بحقوق الإنسان وإنكارها، ينبع من الجهل بحقيقة الإنسان، وقيمة المحافظة على حقوقه سواء المادية أو المعنوية، ولا شك أن التعدي المعنوي على الإنسان أشد لأن أثره ممتد، فالعنصرية والطائفية والمذهبية الضيقة والقسوة والتشدد قتل معنوي لكل معاني الإنسانية في الوجدان.
لا شك أن الفكر المادي الغربي له الدور الأكبر في انتشار هذا الظلم الذي وقع على الإنسان في مختلف بقاع العالم، فهو فكر يؤسس لشريعة الغاب والبقاء للأقوى، باستغلال التقدم التكنولوجي والعسكري أسوأ استغلال في احتلال واستعباد شعوب العالم ونهب ثرواتهم وإفقارهم، كما استغل تفوقه الإعلامي في إشاعة الجهل وانتشار قيم المادية والاستهلاكية ومحاربة هوية الشعوب الأصلية، وفرض نمط ثقافة بالقوة بدعوى نشر التحضر والديمقراطية.
حائط الصد الأول
تلك الهمجية الحديثة التي تضر أشد الضرر بإنسانية الإنسان، تحوله إلى “بين بين” تعتريه حالات الاكتئاب والانطواء والاغتراب، والكراهية والظلم والعدوانية.
لا نجد مقدمة منطقية للوقوع ضد تلك الهمجية والبربرية الحديثة إلا التأكيد بكل قوة على أهمية الأخلاق، فهي المانع وحائط الصد الأول في مواجهة تلك الهمجية.
إن الحديث عن سلوك القوة والعنف في الفكر الغربي حديث تمليه الملاحظات الواقعية، وتثبته الشواهد التاريخية، وتئن منه جميع جنبات الكرة الأرضية، وتنطق به جميع منتجات الإنسان الغربي المادية والمعنوية العلمية والأدبية، إن هذا الفكر ظل طيلة تاريخه القديم والمعاصر يتهم الغير بممارسة العنف والقوة، ويتخذ من ذلك ذريعة للاستقواء والهيمنة والسيطرة والاعتداء تحت شعارات ومسميات براقة.
زمن علم بلا ثقافة
للمرّة الأولى في تاريخ الإنسانية، يتباعد العلم والثقافة في مواجهة وجودية حتى الموت: انفجار علمي مقابل خراب الإنسان.
في الختام لا ينادي الفيلسوف “ميشال هنري” بزوال العلم إنما بزوال الأيديولوجيا المرافقة له، بعدما صار العلم همجيةً منذ اللحظة التي نسي أنه هو نفسه شكل من الثقافة، هي همجية من نوع جديد تخترق مجتمعات العالم بدعوى التحضر لكنها تؤدي إلى تدميره: هل يمكن التغلّب عليها؟
بلا شك يمكن التغلب على هكذا فكر، فبعد ما ذكرنا دور الأخلاق التي نؤكد هنا أنها يجب أن تكون مقرونة بالعلم الواقعي المدرك لخطر هكذا فكر، والتأثيرات الخطيرة التي أثر بواسطتها على إنسانيتنا، وعرضها لكل أنواع الانتهاك حتى صار الوضع الحديث أشبه بعبودية العصور السابقة لكن تحت نماذج وأنماط مختلفة.
مقالات ذات صلة:
كتاب “الموهبة وحدها لا تكفي أبدًا”
* تنويه: الأفكار المذكورة في المقال لا تعبر بالضرورة عن رأي الموقع.
_________________________________
لمتابعة قناة اليوتيوب لأكاديمية بالعقل نبدأ، اضغط هنا
لقراءة المزيد من المقالات، اضغط هنا