اليد.. صراع القسوة والحِنيَّة
أنقذتني يدٌ من الموت غرقًا، وأنا دون الثالثة، سقطتُ في حوض مياه في بيت جدي القديم، صارعت الماء، وابتلعتُ منه الكثير، بين صرخاتي امتدت يدُ امرأةٍ قريبةٍ لنا، لتؤجل حسم المعركة سنواتٍ أُخرَ، كان البيت ممتلئًا بالبشر، أظن أن اجتماع العائلة سببه عرس أو جنازة راحل، في الحالتين يَقدُم الأقارب من العاصمة ومن المحافظات التي تشتتوا فيها، لا يعودون إلى القرية إلا في الأفراح أو الأتراح، ثم يرجع كل إلى شتاته ومنفاه.
في لحظات اليأس ألوم تلك اليد، وفي لحظاتٍ أشكرها على صنيعها، أهدتني فرصة للعيش مرة أخرى، أبقتني في التجربة، ربما لولاها لكنت في طي النسيان، هناك آلاف أمثال هذه اليد، واهبة الحياة، أيدي القابلات وأيدي أطباء الولادة، الأيادي المانحة للحياة ونقيضتها مانحة الموت.
منافع اليد
يُعدد الجاحظ في كتاب “الحيوان” فضائل وفوائد اليد، ويقصرها على اجتلاب المنافع ودفع الضرر والأذى، يقول:
“فاللسانُ الآن إنَّما هو في منافع اليد والمرافق التي فيها، والحاجات التي تبلُغها، فمن ذلك حظُّها وقِسْطُها من منافع الإشارة، ثم نَصيبُها في تقويم القلم، ثم حظها في التصوير، ثم حظها في الصناعات، ثم حظها في العَقْد، ثم حظها في الدَّفْع عن النفس، ثم حظها في إيصال الطعام والشراب إلى الفم، ثم التوضُّؤ والامتساح، ثم انتقادِ الدنانير والدراهم ولبس الثّياب، وفي الدفع عن النفس، وأَصنافِ الرَّمْي، وأصنافِ الضرْب، وأصناف الطعْن، ثم النَّقْرِ بالعُود وتحريكِ الوتر، ولولا ذلك لبَطَل الضرْبُ كله أو عامَّتُه، وكيف لا يكون ذلك كذلك ولها ضَرْبُ الطبلِ والدُّفِّ، وتحريكُ الصفّاقَتين، وتحريك مخارِق خروق المزامير، وما في ذلك من الإطلاق والحبس، ولو لم يكن في اليد إلاَّ إمساك العِنان والزِّمام والخِطام، لكان من أعظم الحظوظ”.
لا يكتفي الجاحظ بما هو مادي وحسي فقط، لكن يتعادهما إلى ما هو روحي، فلا ينسى دور اليد في نقر العود وتحريك الوتر إلا أنه أخَّر تلك الفوائد، وجعلها في ذيل القائمة لترتيب حاجات الناس، وتراتبها في سُلَّم الأولويَّات، كما أن شيئًا من البراعة يصف به أصابع اليد، وهو “تحريك مخارِق خروق المزامير”، وما في ذلك من تمكن للزامر، تقوم اليد بالدور الأكبر فيه، ثم يختم فقرته بما ينفع الناس في زمانه، جاعلًا من إمساك العِنان والزِّمام والخِطام، وكلها معينة على خوض الحروب والمهارة في القتال، والسير والسفر والرحيل، خلاصة الخلاصة لليد، كأنها هي المتحكمة في مقادير البشر، رافعة أحدهم فوق الآخر.
اقرأ أيضاً: الغرق
اليدُ مجازًا/يد الله
ينقذنا التأويل من الوقوع في الزلل، فيأتي المجازُ منجاةً من أحابيل المعنى المباشر، فما وراء اللفظ يكون أبهى وأجلى من اللفظ الظاهر ذاته، في اللغة تأتي اليد بمعنى القدرة، وفي القرآن الكريم عند الحديث عن البيعة يقول الله تعالى: {يَدُ اللَّهِ فَوْقَ أَيْدِيهِمْ} دلالةً على قدرة الله وقوته التي تعلو فوق قدرة وأيدي المؤمنين، وفي موضع آخر تصير اليدُ علامة على العطاء والجود، يقول تعالى: {وَقَالَتِ الْيَهُودُ يَدُ اللَّهِ مَغْلُولَةٌ ۚ غُلَّتْ أَيْدِيهِمْ وَلُعِنُوا بِمَا قَالُوا ۘ بَلْ يَدَاهُ مَبْسُوطَتَانِ يُنفِقُ كَيْفَ يَشَاءُ}، والمعنى نفسه في قوله تعالى: {وَلَا تَجْعَلْ يَدَكَ مَغْلُولَةً إِلَىٰ عُنُقِكَ وَلَا تَبْسُطْهَا كُلَّ الْبَسْطِ}، فالشح مرتبط باليد، وكذلك الإسراف، فالاعتدال هو المقصود، ويُقال له أيادٍ بيضاء على فلان للدلالة على الفضل والإحسان والسخاء.
المجاز يجسر المسافة بين المُرسل والمُستقبِل، مقربًا المعنى، ليكون ذا دلالة أقوى مما لو عُرض المعنى غُفلًا ساذجًا، وكون وجود معنًى ثانٍ يحمل صورة مختلفة، دال على وجود معانٍ أخرى، يحتملها اللفظ، توسِّع المعنى، وتفتح أفق التأويل، ولا تغلق القوس أبدًا أمام المتلقي.
اقرأ أيضاً: أبحث عن كلمات الله فيك
اليد الحانية
يُغفل نصُّ الجاحظ دورَ اليد الحانية، اليد الشفوق، التي تربت على اليتامى، والحيارى، ومنقطعي الأمل، والبائسين، وقليلي الحيلة، القابضين أيديهم عن سؤال الناس، وألسنتهم عن الشكاية، الباسطين أيديهم، رافعيها إلى الله في الخلوات، وفي هدأة الليل. هؤلاء المُنْزوون العائشون في الخفاء المستظلون بالسَّكينة، بالكاد يُمرِّرون اليوم، ينتظرون المساء ليوارِي عجزهم، والنهار قادم فضَّاح، ولا أمل في التخفي طوال العمر.
هناك أيدٍ كالَّة، متعبة، مشققة، من العمل، يد ينام صاحبها من المشقة، ليصحو مبكرًا ليواصل رحلة العمل، وهناك “الأيدي الناعمة”، المدلَّلَة التي لا تعمل، ولا تحب العمل، ينام أصحابها ليجدوا “فتيت المسك فوق فراشهم” كما قال قديمًا امرؤ القيس واصفًا المرأة المُرفَّهة، “نؤوم الضحى”، لم يصف الشاعر يدها، لكن اكتفى برائحة المسك فوق الفراش، ونومها حتى توهج شمس الضحى، ليترك طاقة التأويل للقارئ يتخيل شكل تلك اليد، مُتحسسًا نعومتها، متخيلًا أيضًا أنها مخدومة، لا تقوم بعمل يجبرها على الاستيقاظ عند طلوع الفجر، يد “نؤوم الضحى” تشبه اليد التي يبغي المُحب تعمّد لمسِها عند محادثة محبوبة، في الفصل الذي عقده ابن حزم في كتابه “طوق الحمامة” عن علامات الحُب.
اليد القاسية
هناك أيدي القُساة والجبارين، أيدي الجلادين وسفَّاكي الدماء، غلاظ القلوب، أياديهم تكلُّ وتتعب من التعذيب، وصفهم الكاتب جمال الغيطاني في كتابه التجليات –بعد تجربة قاسية في السجن– بأن “لهم مقامع من حديد”، زبانية يقتلون بدمٍ بارد، في كل زمن توجد تلك الأيدي، قادرة في كل وقت على الإذلال والقهر، تتجاوز هذه الوظائف منافع الجاحظ الحسِّية والروحية، مُلئت السجون في زمنه بآلاف المظلومين، وزُهقتْ مئات الأنفس، لكنه أهملها ربما عمدًا أو خوفًا!
هناك أيادٍ عُليا، تلوح من السيارات الفارهة، مُدججة بالحراسة، والأسلحة، تقف كل حين لتصافح مارًا، رغم أنها اليد نفسها التي تقهر وتسلب، لكن صياغة المشهد يجب أن تكون على هذه الشاكلة، يُبرْوَز المشهد الأخير، ويُتكتم عن الآخر الأقسى.
لكن هل كان في استطاعة الجاحظ أن يكتب عن هؤلاء ولو مجازًا؟ أن يُلمِّح مرة مشيرًا إلى تلك المظالم؟ لا، لم يكن الجاحظ مُعارضًا بالتعبير الحديث، كان كاتبًا شبه رسمي، لا يخسر السلطة، ولا ينخرط في عمل يشغله عن أدبه وكتاباته، أمسك العصا من المنتصف، وفي الوقت الذي يتطلب المداهنة يميل نحو السلطة، فيبرر مظالم العباسيين ويشارك في نشر الرواية الرسمية التي تؤيد أحقيَّة وجودهم.
في عام 255هـ مات الجاحظ، لم تُمكنه يده التي خط بها آلاف الصفحات من تجنب سقوط الكتب فوقه، دُفن بين الصفحات التي عاش بينها، في جنازته كانت مئات من الأيدي تُلوِّح له مُودعةً، كأنها إشارة إلى اليد التي وهبت حياتها للكتابة، وما بدأت به كان لا بد أن تنتهي إليه.
منذ سنوات ماتت صاحبة اليد التي أنقذتني، رأيتها في زمن صرتُ فيه شابًا، ومكان ضيقٍ لا يسع عائلة كبيرة فروعها ممتدة هنا وهناك، رأيتها مُلتفَّة ببطانية، وقد عادت من جلسة غسيل كُلوي، لاحظتُ أن يدها متوارية، لم أرها لأقبلها امتنانًا أو أصافحها متمنيًا الشفاء.
مقالات ذات صلة:
* تنويه: الأفكار المذكورة في المقال لا تعبر بالضرورة عن رأي الموقع.
_________________________________
لمتابعة قناة اليوتيوب لأكاديمية بالعقل نبدأ، اضغط هنا
لقراءة المزيد من المقالات، اضغط هنا