كاسيرر – هيدجر: مناظرة دافوس
سنة 2003، نشر «بيتر جوردون» (Peter Gordon) (أستاذ التاريخ والفلسفة في جامعة هارفارد) كتابًا هامًا عن أوجه التقارب الفكري بين شخصيتين مميزتين تنتميان إلى ثقافة فايمار (Weimarer) (الجمهورية التي نشأت في ألمانيا في الزمن من 1919 إلى 1933 نتيجة للحرب العالمية الأولى وخسارة ألمانيا الحرب)، وهما: الفيلسوف واللاهوتي والصوفي الألماني اليهودي «فرانز روزنزفيج» (Franz Rosenzweig 1886 – 1929) والمؤلف المعروف لكتاب «الوجود والزمن» (Being and Time 1927)، «مارتن هيدجر» (Martin Heidegger 1889 – 1976). جاء الكتاب تحت عنوان: «روزنزفيج وهيدجر: بين اليهودية والفلسفة الألمانية» (Rosenzweig and Heidegger: Between Judaism and German Philosophy)، وقد كتبه «جوردون» بإلهامٍ من مقالة قصيرة نشرها «روزنزفيج» قبل وفاته بشهور عن واحدةٍ من أهم المناظرات عبر تاريخ الفلسفة، أعني تلك التي جرت في دافوس بسويسرا سنة 1929 بين كل من «هيدجر» و«إرنست كاسيرر» (Ernst Cassirer 1874 – 1945). وفي سنة 2010 نشر «جوردون» كتابه الثاني المؤثر عن هذه المناظرة تحت عنوان «الانقسام القاري: هيدجر، وكاسيرر، ودافوس» (Continental Divide: Heidegger, Cassirer, Davos)، وفيه يُعيد بناء هذا اللقاء من حيث مضمونه وملابساته وسوابقه وعواقبه وتداعياته. والكتابان معًا يرسمان صورة مثيرة وغير نمطية لإحدى اللحظات الفريدة في تاريخ الفلسفة والثقافة الألمانية في القرن العشرين.
إنها اللحظة التي بدا فيها أن اليهود الألمان قد اكتسبوا أخيرًا قبولًا اجتماعيًا وسياسيًا كاملًا، وأصبحوا عنصرًا مهمًا ومحفزًا في الحياة الثقافية الألمانية، إن مهنة «كاسيرر» أستاذًا للفلسفة في جامعة هامبورج (Hamburg)، ثم رئيسًا لتلك الجامعة ومترجمًا بارعًا للتقليد الكانطي، تشهد على هذه الحقيقة. لكنها أيضًا لحظةٌ كانت فيها القومية الألمانية تتخذ منعطفًا جديدًا في مناهضة اليهود. وسرعان ما وصل التعايش الألماني اليهودي الخصب إلى نهايته، فبعد أن توفي «روزنزفيج» في أواخر سنة 1929 (قبل أن يصل النازيون إلى السلطة)، اضطر «كاسيرر» إلى البحث عن ملجأ في إنجلترا والسويد، ليستقر أخيرًا في الولايات المتحدة، حيث توفي أستاذًا في جامعة ييل Yale سنة 1945، تمامًا في الوقت الذي كانت فيه النازية قد بلغت نهايتها. ومن جهة أخرى، عرَّض «هيدجر» نفسه للخطر سنة 1933 عندما أصبح أول رئيس نازي لجامعة فرايبورج (Freiburg).
يبدأ «جوردون» كتابه بتوصيف واسع للمواقف الفلسفية لكلٍ من «كاسيرر» و«هيدجر»، مُوضحًا أنه في قلب نقاشهم في دافوس (وكما تبين، في قلب فكرهم الفلسفي بأكمله) يكمن تنافس أساسي بين صورتين معياريتين للإنسانية، «الإلقاء» (Thrownness) و«التلقائية» (Spontaneity)، فعلى حين رأى الكانطي الجديد «كاسيرر» أن البشر موهوبون بالقدرة على «التعبير التلقائي عن الذات»، ومن ثم يتمتعون بالحرية الكاملة لخلق عوالم ذات معنى، تصور «هيدجر» أنهم يتحددون من «تناهيهم»، بمعنى أننا البشر «نُلقى» أو «نُقذَف» عند ولادتنا في عالم ليس لدينا سيطرة عليه (الطبقة، الجنسية، الجنس، وما إلى ذلك)، ويجب أن نتعلم كيفية التعامل معه. وبعبارة أخرى، بعد «إلقائنا» في عالم لم نختره، يتعين علينا أن نتعلم كيفية التغلب على التحديات التي تُواجهنا: الإحباطات والمعاناة والمطالب والأعراف الاجتماعية وروابط القرابة والواجب. إن هذه التحديات، وكيفية تعاملنا معها أو التغلب عليها، تصبح في النهاية هويتنا وكينونتنا (الدازاين) (Dasein)!
هذه بالتأكيد عناصر مهمة لوصف أفكار «كاسيرر» و«هيدجر»، لكن يجب أن نضيف أن الأنساق الفلسفية تميل إلى أن تكون خليطًا من المكونات المستمدة من مصادر متعددة. وهكذا، فإن روايات «كاسيرر» التاريخية ألزمته بنوع من الاعتراف بالمحدودية الإنسانية، في حين أن انشغال «هيدجر» بإمكانية اتخاذ خيارات حقيقية دفعه سنة 1933 إلى الاحتفال بـ «إرادة القوة» (Will to Power) مع الشباب النازي الألماني.
يشرع «جوردون» بعد ذلك في تحليل وضع الفلسفة الألمانية في وقت لقاء دافوس، ويذهب إلى إن الفلسفة الألمانية رأت ذاتها في هذه اللحظة في حالة أزمة عكست حالة عدم اليقين السياسي والفكري في ذلك الزمن. لقد هيمنت «الكانطية الجديدة» (Neo-Kantianism) على المشهد الفلسفي الألماني لجيلين أو أكثر، وهي المدرسة التي انتمى إليها أولئك الذين تبنوا أفكار «كانط» (Kant) ومذهبه ونظريته النقدية، التي تؤكد استحالة معرفة الشيء في ذاته، أي أن من شأن العقل أن يقف عاجزًا أمام فهم العالم في حقيقته. هذا ما يؤكده كتاب «نقد العقل الخالص» (Critique of Pure Reason 1781): أن معرفتنا بالعالم محددة بـ”مقولات قبلية للإدراك”، أو فلنقل أن معارفنا تُوضَع في قوالب ذهنية سابقة للوجود تشكل معرفتنا. إن إدراك الزمن “الخطي”، والمكان “بأبعاده الثلاثة” والسببية (لكل شيء سبب سابق عليه) لا يعكس ربما الطبيعة العميقة للعالم، بل يعبر بالأحرى عن بنية العقل!
على أنه بحلول عشرينيات القرن الماضي أصبحت الانقسامات العميقة واضحة في هذه المدرسة الفكرية: كانت الأنماط الوجودية للفلسفة التي يرجع تاريخها إلى «سورين كيركجارد» (Kierkegaard 1813 – 1855) و«نيتشه» (Nietzsche 1844 1900) تُعاود الظهور بتزايد، ودفعت الأنثروبولوجيا الفلسفية (Philosophical Anthropology) بالفلسفة في اتجاه جديد، وأخيرًا كان هناك «إدموند هوسرل» (Edmund Husserl) وفلسفته الظاهراتية. لقد دمج كتاب «هيدجر» عن «الوجود والزمن» بسهولة هذه القوى الجديدة كلها، كما سعى «كاسيرر»، بصعوبة أكبر، إلى استيعاب هذه الطاقات الجديدة بتحويل نظرية المعرفة عند «كانط» إلى فلسفة ذات توجه تاريخي وإثنولوجي للأشكال الرمزية (Symbolic Forms).
أما عن سياق المناظرة فيصفه «جوردون» بالعودة إلى عشرينيات القرن العشرين، حين بدأ مجتمع دافوس بسويسرا تنظيم ندوات جامعية سنوية تستمر كل منها نحو ثلاثة أسابيع: مؤتمر دافوس هوششولكور الثاني، أو مؤتمر جامعة دافوس (Second Davos Hochschulkurs: Davos University Conference). وفي سنة 1929، حضر مئات عدة من المشاركين إلى هذا الحدث من أنحاء أوروبا جميعها. كان هناك ما مجموعه ست وخمسين محاضرة فردية في ذلك العام ألقاها عددٌ من المتحدثين المتميزين. وجرت المناظرة في إطار لقاء بين الفيلسوفين في المدة من 17 مارس إلى 6 أبريل 1929، بحضور شباب الفلاسفة في ذلك الوقت: «رودلف كارناب» (Rudolf Carnap 1891 – 1970)، و«إيمانويل ليفيناس» (Emmanuel Levinas 1906 – 1995)، و«جوزيف سولوفيتشيك» (Joseph Soloveitchik 1903 – 1993)، وغيرهم من صفوة الطبقة المثقفة الألمانية ورموز الصحافة والإعلام. وكعادته، بدا «كاسيرر» أنيقًا، هادئًا، موسوعيًا، يكتسي وجهه بوقار الشيخ الفيلسوف، في حين بدا «هيدجر» شابًا (40 عامًا)، حازمًا، مندفعًا، مثيرًا لإعجاب الحضور بصرامته! ألقى كاسيرر أربع محاضرات، وألقى هيدجر ثلاث محاضرات، وكان الموضوع الرسمي للندوة السؤال الكانطي: ما الإنسان؟ وأهمية المفاهيم الكانطية للحرية والعقلانية.
بدأ «كاسيرر» المناظرة بالسؤال: ما الذي يفهمه «هيدجر» من الكانطية الجديدة؟ وردَّ «هيدجر» بالتأكيد على أن الكانطيين الجُدد قد اتحدوا على اختزال «نقد العقل الخالص» إلى محض نظرية معرفة للعلوم الطبيعية، إذ دفع بهم التفوق الواضح لهذه العلوم إلى قصر مهمة الفلسفة على توفير الأساس النظري للمعرفة العلمية الطبيعية، في حين أنه ينبغي قراءة «النقد» على أنه يضع الأساس للميتافيزيقا، وهو ما شرحه «هيدجر» بعد ذلك بالتفصيل في كتابه «كانط ومشكلة الميتافيزيقا» (Kant and the Problem of Metaphysics) الذي نُشر في أواخر سنة 1929. لقد فهم «كانط» –وفقًا لمؤلف «الوجود والزمان»– أن الزمن هو الشرط الصوري «القبلي» لكل مظهر، وهذا يعني أن معرفتنا الوجودية نسبية، مرتبطة بطبيعتنا كوننا كائنات متناهية.
من جانبه، أصر «كاسيرر» على أن نقد «كانط» للعقل الخالص، وإن كان يؤكد على الزمانية والمحدودية البشرية، سعى أيضًا إلى وضع الإدراك البشري ضمن مفهوم أوسع للإنسانية، مفهوم التخطي للتناهي، الذي يمكن به تحدى «النسبية» بالاحتجاج بالصلاحية العامة للحقائق التي تكتشفها العلوم الدقيقة والأخلاقية. بالنسبة إلى «كاسيرر»، يُعد التوتر بين المتناهي واللا متناهي، الموجود عند كانط مثلما هو موجود في فلسفات العصر الحديث وعلومه كلها، أعظم إنجاز للإنسانية، إنه المظهر الرئيس لمكون أساسي من مكونات الحالة الإنسانية: التلقائية (Spontaneity). هذا هو المبدأ الذي بموجبه فقط يُمكن بناء العالم عن طريق «الأشكال» المسقطة تلقائيًا من العقل، وبموجبه فقط يبدو العالم منظمًا أو موضوعيًا! وبعبارة أخرى، تتخطى معرفتنا حدود العقل الخالص عبر نوافذ أخرى رمزية: اللغة، والأسطورة والفن بأنماطه المختلفة. تنطلق بنا اللغة (ومن ثم الأسطورة والفن) إلى العالم برمزيتها، وبهذه الأخيرة تتسع دلالاتها لتتجاوز بؤرة الرؤية الحيوانية الوحيدة للشيء. لا يرى الحيوان في الماء إلا سائلًا يُبدد به عطشه، لكن الماء بالنسبة إلى الإنسان «فكرة» تمتد إلى أفكار أخرى: الطراوة، الصفاء، البحر، الحياة، النهر، المطر، إلخ. وهكذا تتجلى وظيفة الرمز، أن يجعل العقل منفتحًا على إبداع وحُرية لا نهاية لهما!
تطرق النقاش أيضًا إلى مسألة الخيال، ففي الطبعة الأولى من النقد سنة 1781، عرَّف «كانط» الخيال بأنه «ملكة ثالثة» تتوسط بين الحساسية (Sensitivity) والفهم. وقد عارض «هيدجر» و«كاسيرر» بعضهما جذريًا في تفسيرهما لهذه الملكة، فبالنسبة إلى الأول، كان من الضروري استهداف ما أراد «كانط» قوله لكنه لم يستطع، أو بالأحرى لم يكن راغبًا في قوله، فالخيال يتقدم الحساسية والفهم ويقودهما، إذ هو الجذر المشترك الذي يمكن منه التركيب والتخطيط المتعالي، ومن ثم الربط وخلق النظام والتطابق. المعرفة لا تصدر بالنسبة إلى «كانط» عن العقل، ولا عن اللغة، بل تصدر عن الخيال. إن الخيال، وليس المنطق، هو الذي يمهد للانفتاح على الموجود من أجل جعله موضوعًا يتراءى نورًا أمام الذات. ويكون التمهيد لهذا الفعل عن طريق مد الفكر برسوم تخطيطية أولية خالصة، وبفعل الوحدة الأساسية للحدس الخالص، تلك التي تتجلى في الزمان بوصفه صورة خالصة للحدس الحسي، وهي وحدة تساعد الفهم على إبداع الصور الذهنية الخالصة! أما «كاسيرر» فقد رفض المحاولة الهيدجرية تمامًا، ورأى أن أعمال «كانط» تحتوي على مادة كافية، وبأقصى قدر من الوضوح، فالخيال ليس سابقًا على العقل، وإلا كان الإنسان شاعرًا وفنانًا قبل أن يكون عالمًا، حالمًا قبل أن يكون مُفكرًا!
أخيرًا، لم تكن مناظرة دافوس –كما بدت للحضور– محض شجار أكاديمي بين أستاذين كبيرين، بل كانت بمنزلة مواجهة بين ممثلي عصرين. وبسبب تباين مسارات حياة «كاسيرر» و«هيدجر» بعد المناظرة، أصبح يُنظر إلى الحدث منذ ذلك الحين على نطاق واسع على أنه معركة بين الإنسانية الليبرالية العالمية واللا عقلانية القومية الناشئة، بين عقلانية تنتصر للعقل والمنطق واللغة والحضارة، ولا عقلانية تطعن في سيادة العقل وتُعلي من شأن الخيال والقوة! ولعل المأساة الكبرى في مناظرة دافوس، لا في انتهائها بانتصار سياسةٍ ما من النوع الخطأ، بل في انتهائها بصفة عامة إلى السياسة، السياسة في حد ذاتها، وما أسوأها من نهاية!
مقالات ذات صلة:
الواجب الأخلاقي ودلالاته عند إيمانويل كانط
* تنويه: الأفكار المذكورة في المقال لا تعبر بالضرورة عن رأي الموقع.
_________________________________
لمتابعة قناة اليوتيوب لأكاديمية بالعقل نبدأ، اضغط هنا
لقراءة المزيد من المقالات، اضغط هنا