مقالاتعلم نفس وأخلاق - مقالات

قيمة كل امرئ ما يحسنه

قيمة كل امرئ ما يحسنه .

المقولة للإمام علي بن أبي طالب

قد تبدو المقولة بسيطة ولكنها لفتت نظري لمعاني شديدة العمق؛ فقد يظن البعض أنها تشير إلى قيمة العمل أو الوظيفة التي يُؤجر منها، أو قيمة المهارة الحرفية التي يتقنها، ولكنها أعمق من ذلك.

عندما يتعلم الصبي حرفة ما، يبدأ أولاً بالتعلم البصري ثم يحاول تدريجيًا أن يُجرب بيده، فيخطئ مرات ومرات حتى يستطيع أن تتحكم أنامله الصغيرة بالأداة التي يستعملها في حرفته، ثم يعلو مستواه مع استمرار المحاولة والتعلم من الأخطاء والصبر والمثابرة والاجتهاد، حتى يصبح يوماً من الأيام من صُناع هذه الحرفة ويتعلم على يديه الصبيان.

متى يمكننا الحكم على هذا الصبي أنه أصبح صانعًا محترفًا؟

اضغط على الاعلان لو أعجبك

عندما يتقن فنيات هذه الحرفة جيدًا، ويحيط بجزئيات صنعها بشكل يمكنه من إنتاج مصنوعات عالية الدقة.

وعندما نرى أمامنا المنتج المصنوع بيده، لا يمكننا الحكم أنه مبتدئ؛ بل من البديهي وقتها أننا سنستنتج كم قضى هذا الرجل من ساعات وأيام وسنوات في تعلم وممارسة هذه الحرفة، برغم أننا قد لا نعرف عنه شيئًا سوى منتجه.

وعلى غرار ذلك، يمكن للمرء التعبير عن نفسه عبر صنعه، وعبر ملاحظة ما يحسنه.

الأمر لا يقتصر على الحرف

الفكرة الأكثر عمقًا المقصودة في هذا المقال أن ما يصنعه ويحسنه المرء ليس مجرد حرفة أو صنعة، ولكن كذلك الفعل المعنوي المُتمثل في السعي الداخلي الذي يعبر عن مكنونات النفس وقيمتها.

فقط تلحظ رجل جُل ما يحسنه هو الغش، يتقن فنياته وأساليبه جيدًا، فلا شك أن هذا الرجل قضى قسطًا ليس هينًا من حياته في ممارسة الغش بشتى الأنواع مع المئات من الضحايا.

وقد تجد امرأة لا تفقه في الحياة شيئًا إلا الأذى التفصيلي لمن تعتقد أنهم أعداؤها، فتكيد وتخطط لتطرد كل من يقاوم أهدافها، فلا شك أن هذه النفس قد قضت أيامًا وسنوات تمارس هذه الألاعيب حتى أتقنتها وأصبحت جزءًا منها، تمارسه بتلقائية شديدة وبدون جهد كبير.

المثالان السابقان ينُمان عن قيمة أصحابهم، فمن قضى حياته في ممارسة الغش أو أنفقت عمرها في المكر والأذى، فبالطبع لن تكون قيمتهم مشرفة في عداد الإنسانية.

ربما ذكرت هنا الغش في مجتمع الرجال والمكر في مجتمع النساء لشيوعهم!

فمعظم معارك الرجال في لقمة العيش، وأغلب صراعات النساء في التعاملات الجزئية.

ليس الأمر فقط بالنسبة للخير والشر، فقط يظهر قيمة شخص ما في إتقانه للكسل، للشره في الأكل، الانصياع للمزاج، لنصرة الأنا الداخلية.. إلخ

ماذا لو كان شخص ما يحسن أكثر من أمر؟

قد يستفهم البعض، ماذا لو كان شخص ما يحسن أكثر من أمر؟

تأتي حينها قيمته بالأمر الأكثر إحسانًا وممارسة، ما هو الشئ الأكثر مهارة فيه؟ وما هو الشئ الأكثر استحواذًا لوقته؟

الإجابة هنا تُحدد الكثير.

هل هذا يعني أن الإنسان لابد وأن يصل للمثالية حتى يصبح ذو قيمة عُليا؟

الإجابة ستعبر عما يمكننا وصفه بسر الحياة، ومن أدركه فقد دنا من سعادته الحقيقية برغم ما قد يواجهه من صعوبات.
الحياة لم توجد إلا للسعي بالنفس والجسد نحو الأفضل.

فالمقصود هنا ليس الوصول للمثالية الوهمية، ولكن للقدر الأقصى من الاستطاعة التي يطيقها الإنسان البشري بشكل عام، وفلان بشكل خاص.

وحين نفسر ذلك، لا يمكننا الجزم بفساد كل من لم يصل إلى أقصى قدرته في هذا السعي، ولكن بالضرورة لا يمكننا حينها الجزم بأنه حقق تمام إنسانيته.

على قدر سعيك، تتشكل قيمتك

فمثلاً شخص ما قضى حياته في إتقان عمله الوظيفي، والإنفاق على أسرته، هو بذلك يقوم بأداء مهام أساسية على أكمل وجه، ولكن لن يصل إلى أقصى قيمة إنسانية له إن كان باستطاعته أن يضيف مهام أخرى كتطوير عقله ليصنع من أطفاله مفكرين لا منقادين مثلاً.

إذن؛ لا يمكننا إدعاء أن هناك خطوات تفصيلية محددة لابد وأن يقطعها الإنسان حتى يصبح إنسان ذو قيمة، لأن التساوي ظلم لمن هم غير متساوين.

فالأفراد ليسوا سواء في المعطيات والظروف، فلكل فرد سعة ما تستوعب قدراته.

ولكن يمكننا الجزم أن الكل مُطالب أن يصل إلى أقصى سعي يحتمله لحمل الجسد والنفس إلى مراتب أعلى مما هي عليه.
وعلى قدر سعيك، تتشكل قيمتك، وأفضل ما يعبر عن السعي هو تحديد ما يحسنه المرء.

مكونات الإنسان والتمرين اللازم لكل مكون

وليكون الوصف أكثر وضوحًا، يمكننا تقسيم الإنسان إلى مكونات، والمطلوب أن يبذل الإنسان وقته وجهده في تمرين تلك المكونات -كلُ بما يناسبه- لتقوى وتنضج.

فالعقل مكون هام جدًا مختص بجنس البشر، فلا يصح إهماله.

والسعي فيه يكون بتمرينه على العمل على نحو سليم، وإزالة أية أفكار مهترئة وأوهام خبيثة.

والقلب مكون لا يمكن إغفاله، والمقصود به هنا هو مجموع الخِصال والملكات الباطنية والعواطف والتي منها تتشكل الدوافع الأساسية الأولية التي تحرك الإنسان.

والسعي فيه بتنظيفه من كل ما يُلوثه من دنايا كالخِصال الخبيثة، والملكات المؤذية، والعواطف المتجهة نحو الشر ومصاديقه، وبالتبعية تطهير وإعادة تكوين دوافع أكثر نزاهة.

والجسد مكون أساسي كذلك، وأي عطب أو خلل فيه يشل الإنسان عن أنواع السعي المختلفة.

والسعي فيه يكون بتقويته عن طريق التحكم في كل ما يدخله، وبذل كل حركاته في الخير.

تخيل معي أنك رأيت شخصًا يجيد التعامل العادل مع جسده، ويتقن السيطرة على قلبه، ويتميز في استخدام عقله، ألا يمكنك أن تتوقع كم قضى من وقت لترويض هذا الجسد، وتطهير هذا القلب، وتمرين هذا العقل؟!

ألا يمكنك حينها أن تدرك ما يحمله هذا الإنسان من قيمة إنسانية رفيعة؟

لعل الوقت حان لنتوقف قليلاً ونتسائل: أي شئ نحسن؟!

اقرأ أيضاً:

معرفة النفس

وعاء النفس والروح

هواجس النفس وسمومها

هبة علي

محاضر بمركز بالعقل نبدأ وباحثة في علوم المنطق والفلسفة