قلق لا معنى له ولا مفر منه
نفتح أعيننا منذ اللحظة الأولى على حياة لا نعلم شيئًا عن مصدرها ولا منتهاها، من أين وإلى أين؟!، تمتد أبصارنا إلى آفاق لا نعلم شيئًا عن جذورها ولا فروعها المترامية، ماذا عن الماضى البعيد المنقضى؟ وماذا عن الغيب المستقبلى؟
سحب من الجهالة تطبق علينا من كل جانب، وتبقى اللحظات الراهنة وحدها فقط هى الخاضعة للبرهان العلمى التجريبى المتكئ على آداتى التجربة والمشاهدة، والعاجز عن إيجاد أجوبة مقنعة عن هذه الأسئلة على المستوى العلمى أو الفكرى، والعاجز عن إيجاد يقين علمى مطمئن.
فكان لابد أن ينتهى الأمر بالإنسان إلى اليأس وإلى القلق يستأنس به ويسكن إليه، وما عليه فى هذه الحالة إلا أن ينشغل بخدمة رغباته النفسية وحاجاته المادية عن تطلعاته وتساؤلاته الفكرية.
ولكن هل انتهت معاناة الإنسان هذه وتمَلَكَ منه اليأس، هل يملك أن يتشاغل عن أسئلته هذه وأن يتناسى جوعه لليقين متسليا بأهوائه ورغباته، هل يوجد فى نطاق الطبيعة الإنسانية من يملك هذا الخيار؟!
لا شك أن انشغال الإنسان بتلبية أهوائه ورغباته قد يشغله عن الإرهاق الفكرى الذى يلاحقه، ولكن هذا الانشغال حتمًا لن يستمر إلا إلى حين.
إن كل الأهواء والغرائز والحاجات النفسية والمادية محكومة ومضبوطة بمقدار يصعب الشعور باللذة بعد تجاوزه، فالنفس لا تلبث أن تمل وتطمح للمجهول والمطلق؛ هذا ما سيحدث طالما أن المتلذذ يقع فى نطاق الطبيعة الإنسانية.
تضيق النفس بما سئمت، يعود القلق مضافًا إليه الملل وقد توحش وصار مستعصيًا على أى تغيير وتطوير؛ ويقودنا إلى التبرم بالحياة والتعرض للإحباط النفسى الذى يستقر فى النفس ويقودها إلى التقلب فى الملاذ والأهواء ساعية خلف المنسيات والملهيات بكل أشكالها.
إن الشباب الناشئ لا يرى إلا بريق المتع وألوان اللهو وأشكال التقدم التكنولوجى عندما يطل على هذه المجتمعات، ولا يمكنه تخيل أن أبطال هذه الأجواء يمكن أن يتمكن من نفوسهم أى مرض أو إحباط قد يصل إلى العصف بهم.
ومن انغمس فى بحور هذه اللذات والملهيات يشعر بغصة وكرب مطبق عليه، وقد سدت أمامه المخارج فلا يسعهم إلا الإقبال على المزيد من اللهو والتناسى الذى لا يقدم لهم علاج ولكن لا يعرفون بديلًا عنه، هو خيارهم الوحيد.
يتعلق الفرد بما يراه من هذه المتع تعلق الغريق بالقشة ويخشى أن يصغى إلى من يحدثه عن العلاج الحقيقى أو أن يهتدى إلى من يرشده إلى منفذ النجاة.
إن الإنسان عندما يحاول أن يتجاهل البحث عن حقيقة ذاته والوجود يستقر فى ذاته أنه مجرد حدث عابر فى هذه الحياة؛ فيكون سعيه أبعد ما يكون عن التهيؤ لحمل رسالة أو النهوض بأى مهمة أو خدمة أى غاية.
فيكون سيره وسعيه وإقباله على الحياة المفصول عن التطلع لأى غاية هو عين العبث.
إن الإنسان عندما يجهل أو يتجاهل سرهذه الحياة وحقيقة الوجود الذى يعيش فيه وما تنطوى عليه حقيقته كان لزاما أن يتبرم بعيشه وأن يستوحش العالم ويتوحش لإشباع رغباته وينتهى به الحال أمام سد من الجهل المطلق والجشع المطلق الذى يعجز الفكر عن اختراقه.
لا شئ فى الحياة أعبث من أن يعيش الفرد ويسعى ويقطع أشواطًا فى حياته لا لأجل شئ سوى نفسه وما تطمح هى إليه، أو أن يسعى دون أن يدرى إلى أين ينتهى سعيه.
ولا شئ فى الحياة يحفظ الإنسان ويكون مأمنه حتى وإن ضاقت به كل السبل الظاهرية سوى غاية حقيقية يسعى لأجلها تمنحه الدافع للاستمرار وتحميه من شعور أن يعيش لمجرد أنه حى.
إن التأمل فى هذا العالم من داخله والانحباس ضمن أجزائه، والتعامل مع الملموس منه فقط، يُحير ولا يريح، يُضل ولا يهدى.
ولكن التأمل فى العالم من الخارج ومحاولة الوصول إلى سر وجوده والنظر فيما لا يرى ولا يسمع ولا يلمس منه، فهذا ما من شأنه أن يهدى للحقيقة حتى إذا ما وصل إلى يقين صادق واتكأ عليه، انبهر بما يستطيع اختراقه من حواجز وسيصل للحقيقة المطلقة والتى إن ظل بعيدًا عنها فستظل مشكلته مع هذا العالم قائمة وتظل أسئلته الملحة تنتظر الجواب.